رائد الحواري| فلسطين
من يتابع إصدارات فراس حج محمد يجدها دائما تضم ما هو جديد، فهو يحرص على أن لا يكرر ذاته، وأن يكون عمله فيه ما هو غير مألوف، وديوان “على حافة الشعر” يأتي ضمن هذا الاطار، فالديوان هو أقرب إلى مجموعة من الدواوين، ليس لأنه يأتي في مواضيع متعددة، وبلغات مختلفة فحسب، بل لأن كل قسم من الديوان يشبع القارئ ويملأه بالمتعة، بحيث ليس من السهل تناوله في جلسة واحدة، فحالة (التخمة) التي تصيب المتلقي عند قراءة أقسام الديوان تجعله (يعزف) عن مطالعة أي شيء مكتوب، وكأنه أمام نص مقدس/ نص مدهش لا يتيح لمن سواه أي مساحة أو مكان.
بداية؛ سنحاول التوقف عند ما جاء في أقسام الديوان، ولكن قبلها ننوه إلى أن الشاعر يستحضر عناصر الفرح مجتمعة، المرأة، الكتابة، الطبيعة، التمرد، فعندما يتحدث عن المرأة نجده يقدمها بصورة مطلقة، وكذلك الحال عندما يتناول الكتابة/ الشعر، جاء في “الشعر سيدنا الأجل” (ص13):
يا سيّد الشعر إنّ الشعر يعتذرُ
إذ ما نطقتَ تجلّى السحر والقدرُ
فاكتب قصيدك إكراماً لشجو سنا
واقرأ علينا فإنّا بعدُ ننتظرُ
واملأ كؤوسك بالألحان علّ هوىً
من غائب الشخص يتلونا فننبهرُ
أطربْ مسامعنا أخلصْ بمتعتنا
إنَّا للحن قصيد الشعر ننتصـرُ
أسمع حبيباً جرى في الغيم غائبهُ
لكنّ حضـرته في روحنا قمرُ
إذا ما توقفنا عند هذه القصيدة، نجد أن الشاعر متماهياً مع القصيدة، فالعنوان “الشعر سيدنا الأجل” نجده حاضرا في البيت الأول من خلال تكرار “الشعر”، ومن خلال استخدام ألفاظ متعلقة بالشعر: “نطقت، فأكتب، قصيدك/ قصيد، وأقرأ، يتلونا، مسامعنا/ أسمع”، وإذا ما دخلنا إلى عمق القصيدة نجد أن المذكر “الشعر” ينعكس على القصيدة كاملة، بحيث لا نجد أي لفظ مؤنث باستثناء “غائبة”، فالشاعر استبدل بالقصيدة “القصيد”، ولم يكتف بهذا، فنجده يجمع الغيمة “الغيم” كتأكيد على حالة التماهي بينه وبين القصيدة، فجعله “الشعر” يتماهي مع المذكر متجاهلا الأنثى بصورة شبه مطلقة، رغم أن فراس (غارق) (بـ ) و (مع) و (في) الأنثى، لكن الشعر استطاع أن يجعله يتخلص من (جنون) الأنثى، ويجعله يتوحد مع الشعر/ الكتابة.
وأحيانا تكون المرأة هي المولدة/ الموجدة لبقية عناصر الفرح، وأحيانا تكون الكتابة. ففي قصيدة “الشعر سيدة لسيدة الشعر” كانت الكتابة/ الشعر هي من أوجد المرأة وأعطاها حضورا بهيا (ص15):
الشّعر سيّدةٌ زهراءُ هائمةٌ
تختالُ زهوتُها بينَ البساتينِ
تمشـي بأحْرُفِها في غُنْجِ فاتنةٍ
تسقي الورودَ بأقداحِ الحساسينِ
وتعزِفُ الفردَ من ألحانِ نشْوَتِها
جَذْلى يعانقُها بوْحُ الأَفانينِ
نلاحظ أن الشاعر يقرن المذكر/ الشعر بالأنثى، بحيث يجعلهما في مكان/ حالة/ زمن واحد: “زهورها/ البساتين، الوردة/ الحساسين، تعزف/ ألحان، يعانقها/ الأفانين”، وإذا ما توقفنا عند ألفاظ المذكر والمؤنث نجد أن الغلبة للأنثى التي تهيمن بصورة واضحة على القصيدة.
ونلاحظ أن الشاعر يستحضر أيضا الطبيعة التي نجدها في: “زهراء/ زهورها، تسقى، الوردة، الحساسين، وبهذا يكون الشاعر قد استخدم ثلاثة عناصر للفرح، الكتابة/ الشعر، المرأة، الطبيعة.
في قسم منمنمات تماهى الشاعر مع “المنمنمات” التي تتكرر فيها حروف الميم والنون، بحيث نرى هذا التكرار حاضراً في القصائد، جاء في قصيدة “منمنمة على شغاف القلب” (ص29):
أتت على فرعين من لغةٍ
محمّلةً بوهجٍ
مثل موجٍ
طائراً غنّى على برْجٍ
وهاجْ
حطّت على فرعي
ومعي معي
وتسرّبت في أضلعي
مثل ألسنة السّراجْ
قطفت من الشّفتين كِلْمةْ
ومن القلب المضمّخ شمّهْ
ومن العناقِ على العناق أمتعَ ضمّةْ
مثل ماء الوصلِ في صفو امتزاجْ
هناك ألفاظ متقاربة في لفظها ومتجانسة: “بوهج/ موج/ برج/ هاج”، وألفاظ متكاملة: “محلقة/ طائرا/ حطت”، وهناك لفظان يعطيان مدلولاً ثنائياً: “فرعين/ الشفتين”، وألفاظ تتكون من حروف مكررة،: “المضمخ”، وهناك تكرار في ألفاظ “معي/ العناق” كل هذا يشير إلى أن الشاعر متوحد مع شكل لفظ “منمنمات”، وما فيها من ألوان الجمال.
في قسم “إللات: محاولة في القفز على حواجز اللغة، يتناول الشاعر مجموعة من الشخصيات، منها “أميرة الوجد مرة أخرى (ش. ح)” ص97 و98:
هيَ امرأةٌ تحبّ الشتاءَ اغتسالَ المطرْ
وتمشي فراشة ناعمة الخطوات مع خيط السحابْ
تحبّ سماع الأغنيات الهادئة
وإيقاع الحفيف مع الشجرْ
تجدّد نفسها بغيمة هاطلةٍ، جامحةٍ مثل فرسْ
تشعر أنّ الله فيها قطرة متدلّيةٌ
تجوب الشوارع لينجب فيها الغيمُ وصلته القادمة
وترسم في المدى شارتها اللولبيّةَ
تتهادى مثل نغمة متتالية
في معارجها القصيّة مثل نور ملكْ
تخفّف حرّ صيف متهدّل يزعجها
كأنّ هذا الشتاء لها وحدها دون سرب حمام وغيومْ
تقدّ لي حرفين من شغفٍ ومن شرفٍ ومن شبقِ الشفقْ
من شروق الشين في فاءِ الفلكْ
لغة حميميّة الدفء وصلاً ورضىً
امرأة المدينة هذا اليوم سرّ الله في هذي المدينةْ
شاديةٌ وشافية وشاهدة وشامة غرّاء في وجه الألقْ
تعتنق الومقَ المتصبّب منها
كلّما احتدّت محاني الماءِ ضوّعها العبقْ
يمكننا القول أن علاقة الشاعر بهذه المرأة كان في فصل الشتاء لوجود ألفاظ: “الشتاء (مكرر)، مطر، السحاب، بغيمة/ الغيم/ غيوم، هاطلة، قطرة، الماء”، وأن تعلقه بها كان شديد الوقع عليه، لهذا نجده متأثرا باسمها من خلال كثرة الألفاظ التي تتكون من حرف الشين: “الشتاء (مكرر)، تمشي، فراشة، تشعر، الشوارع، شغف، شرف، شبق، الشفق، شروق، الشين، شادية، شافية، شاهدة، شامة”، واللافت أن غزارة حرف الشين جاء بعد أن ذكر الحرفين اللذان يكونان اسمها:
شغف ومن شرف ومن شبق الشفق
من شروق الشين في فاء الفلك
وبعد أن ذكر لفظ “حميمة” الذي فيه تكرار حرف الميم الذي يعطي معنى التماهي مع الآخر، نجده ينساق بطريقة (مكشوفة/ مجنونة) مع الاسم:
“شادية وشافية وشاهدة وشامة غراء في وجه الألق”، ولم يقتصر الأمر على حرف الشين فحسب، بل تعداه إلى تعلقه بلفظ “الألق” الذي نجده في:
تعتنق الومق المتصبب منها
كلما احتدت محاني الماء ضوعها العبق
فنجد “الألق، تعتنق، الومق، العبق”، كل هذه الألفاظ التي ختمت بحرف القاف جاءت بأثر “الألق” المتعلق باسمها “ش. ح”، وإذا ما توقفنا عند مضمون القصيدة والألفاظ التي تشكلها، نجد أن هناك تكاملاً بين الألفاظ البيضاء والناعمة وبين أميرة الوجد، فالمعنى جميل وناعم كحال الألفاظ، وهذا ما يجعلنا نقول استخدام الشاعر لعناصر الفرح المرأة، والطبيعة: “فراشة، فرس، حمام، مطر، شفق، شروق، الغيم” والكتابة: “الأغنيات، حرفين، لغة” جعل بياض الفكرة والألفاظ مطلقاً، بحيث يصل القارئ إلى الفكرة من خلال المعنى العام للقصيدة، ومن خلال الألفاظ المجردة.
أما في قسم قصائد إلى صوفي فنجد البياض المطلق يعم غالبية القصائد، بحيث نجد الألفاظ الناعمة تخدم الفكرة البيضاء، فالشاعر كان في هذا القسم غارق في اللذة حتى أن البياض كان حاضرا بوضوح، يقول في قصيدة “أبيض أبيض” (ص167):
و”شَيْءُ” حبيبتي أبيضْ
كزهر الفلِّ بل أبيضْ
تفتّحَ في الليالي البيضْ
كأنّ حليبه الأبيضْ
يفيض بكأسها البيضاءْ
شفيف مزاجه الأبيضْ
فأروي “شيئها” المبيضْْ
بدفق “عبيريَ” الأبيضْ
فليس هناك من أبيضْ
كشـيء حبيبتي الأبيضْ
نلاحظ أن لفظ أبيض جاء في صدر وعجز كل بيت، ولم يقتصر الأمر على اللون الأبيض فحسب، بل طال أيضا ما لا يغطي/ يحجب جمال الأبيض: “بكأسها، شفيف”، وهذا يشير إلى وضوح العلاقة بينهما وانكشاف طبيعة اللقاء الذي تم.
وقد تناول الشاعر فعل الجماع من خلال (وضوح الإيحاء) أو (إيحاء واضح): “تفتح، يفيض، فأروي، بدفق”، فهذه الألفاظ كافية لإيصال فكرة اللقاء الحميم بينهما، لكن تكرار لفظ “أبيض”، والطريقة التي قدم بها (أخفى/ غطى) هذا السفور وجعله (يستتر) من خلال مشتقات البياض.
ويتقدم الشاعر أكثر في قسم “في مديح النهد” نحو جسد المرأة، مبدياً رغبته الجامحة فيه وفتنته بنهديها، (ص201):
ما أروع هذا الصدر!
الشق العادل في العدلين
ما أفخم هذين النهدين! وما
أجرأ عيني الوالهتين!
وإني أتدحرج عن جبلي
وإني:
ما أجبن كفي العمياوين!
إذا ما توقفنا عند الألفاظ المجردة نجد صيغة المثنى حاضرة من خلال: “العدلين، هذين، عيني، النهدين، الوالهتين، كفيّ، العمياوين”، وهذا يخدم فكرة النهدين، وأيضا فكرة تعلق الشاعر بالمرأة، فرغم أن هناك (سفوراً) في الوصف، وهذا قد يحرج بعضهم، إلا أن الطريقة التي قدم بها المقطع جاءت مدهشة، فقد لصق “العمى” بالكفين، وأعطى الجرأة (الفعل) للعينين، وهذا القلب في صفات الأعضاء، أو ما يعرف بتراسل الحواس له أثر جميل على المتلقي.
يختم الشاعر الديون بقسم: “في حبسة الكوفيد التاسع عشر”، حيث جاءت القصائد تحمل مضموناً أسود، قاتماً، يقول في قصيدة: “يا ضباب الغياب لا تبتلعها” (ص232):
لا شيء في العينين إلّا الحزنُ والدمعُ الكسيرْ
لا شيء في الكلمات إلّا ما تناثر من نزيف الأسئلةْ
نحنُ- الغريبينِ في معاركَ من زمن خجولْ-
بارقتا سؤالٍ ومطرْ
لا تندبي حظّاً تهدهده المسافات الطويلة بالخطرْ
لا تستقلّي مركباً يفضي إلى الطرق البعيدة في متاهاتِ
المجاهيل المدهلزةِ السفرْ
القسوة والسواد حاضران في الفكرة، وفي الألفاظ أيضا: “الحزن، الدمع، الكسير، نزف، الغربيين، معارك، تندبي، بالخطر، البعيدة، متاهات، المجاهل، المدهلزة”، والانتقال من حالة البياض/ الفرح/ الجمال إلى حالة القسوة/ السواد تؤكد أن الشاعر يكتب القصيدة من داخله، وليس بواسطة قلمه، لهذا نجده يتماهى مع فكرة/ موضوع القصيدة التي تُكتبه.
[*] الديوان من منشورات دار بدوي للنشر والتوزيع، ألمانيا، الطبعة الأولى، 2022.