محمد عيسى الخاقاني
التغيير مطلوب على الفور من أجل تحسين أمن وقوة هذه الأمة الفقيرة” (من تقرير البنك الدولي عن العراق)
World Bank & IFC: Doing Business 2017
الغرض من هذا المقال هو تقديم لمحة عامة عن تكوين بيئة من الأخلاق الفاسدة التي سادت في الاقتصاد العراقي بعد الاحتلال الأمريكي، وما نتج عنها من تردي اجتماعي ثقافي جعل الغالبية الشعبية وبعض النخب الثقافية تتقبل هذا الوضع او تشارك فيه، فعندما قامت سلطة الاحتلال بتوزيع السلطة السياسية بين الكتل الدينية والعرقية، جعلت للمناصب الادارية الكبيرة اثمانا تتناسب معها، وكل من يشغل منصبًا إداريًا مهمًا هو ملزم بتوفير ثمن ذلك المنصب لنفس المجموعة الإثنية أو الدينية التي رشحته لهذا المنصب، في مقابل إبقائه في منصبه أو مساعدته على الاحتفاظ بمنصبه.
بالتالي تمكن رجالات السلطة السياسية العراقية الاحتفاظ بمواقعهم حتى لو أظهروا سلوكًا فاسدًا، او كما قال (فيليب لو بيلون 2008) “يعتمد النظام العراقي الجديد الخاضع للاحتلال الأمريكي على الرعاية القائمة على الفساد مع الحفاظ على المصالح الأمريكية”، مما يجعله في مأمن من المحاسبة الدولية التي تتبناه الولايات المتحدة في اغلب الاحيان
لدى العراق ثلاث هيئات تنفيذية قضائية تختص بمكافحة الفساد، هي السلطة القضائية والسلطات الأمنية ولجنة النزاهة. وقد حاولت هذه الهيئات ان تعمل ضد الفساد، لكنها بدورها تدخل ضمن منظومة الفساد، وقد كان ملخص العمل الذي قامت به هذه الهيئات على النحو التالي
1- كانت هناك تقارير عن تحقيقات عن القضاة الفاسدين، لكن معظمهم كان لديهم دوافع سياسية، بحسب (HRR 2016). US Department of State: Human Rights Practices Report – Iraq 2016
2- بينما حققت محكمة النزاهة في بغداد في العديد من قضايا الفساد التي شملت مسؤولين رفيعي المستوى، لكن لم يتم اتخاذ أي قرارات قضائية بحسب (HRR 2016)
US Department of State: Human Rights Practices Report – Iraq 2016
3- يعتبر الفساد داخل الجهاز الأمني أحد الأسباب الرئيسية التي تسهم في التحديات الأمنية التي تواجه البلاد اليوم (مركز موارد U4 لمكافحة الفساد ، تواجه الشركات التي تستثمر في العراق تكاليف أمنية مشددة، بحسب (ICS 2016)
Iraq Trade link News Agency: ‘Unaoil scandal’s first report before Iraqi Parliament MP’, 1 March 2017
4- لم تنشر هيئة النزاهة الى أسماء اي من المسؤولين الحكوميين الضالعين في الفساد في نصف عام 2016 (HRR 2016). ومع ذلك ، حققت اللجنة في 13226 قضية فساد ، منها 7088 تم حلها ، بينما تمت إحالة 1891 قضية إلى المحاكم (HRR 2016). شارك ستة وزراء و 99 موظف حكومي في ست قضايا فساد أحيلت إلى المحاكم بحسب (HRR 2016).
. US Department of State: Human Rights Practices Report – Iraq 2016
وقع العراق وصادق على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد UNCAC)) لكن العراق لم يوقع اتفاقية نيويورك لعام 1958 وليس طرفًا في المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية (ICSID)
ان الاستراتيجية الاقتصادية التي اتبعها العراق صنعت بيئة فساد ديناميكية تؤثر على العمل والأداء الحكومي وصنع القرار، وقد جرت محاولات خجولة لمواجهة الفساد المستشري، الا ان هذه المحاولات باءت بالفشل، حيث لا يمكن السيطرة عليها في ظل ديناميكية فساد مدفوعة بجميع القوى السياسية الداخلية وربما الخارجية في احيان كثيرة.
في عالم متغير وديناميكي وحديث يوجد ثاني أكبر احتياطي للنفط مع الاعلان عن سياسة السوق المفتوحة، والإمكانات الاقتصادية والجغرافية والبشرية الضخمة في العراق، فمن المتوقع أن تكون البيئة الاقتصادية العراقية بيئة واعدة لاستثمارات الشركات العالمية وان يكون العراق من الدول الاقتصادية الرائدة على مستوى العالم، لكن الفساد اصبح في العراق بمثابة ظاهرة اجتماعية معقدة تتشابك بطريقة خيوط العنكبوت وبالتالي تصنع المناخ المناسب لأي فرد او جهة للانخراط في سلوك فاسد ومتعدد الأوجه، مما تؤثر بدورها على القرارات المتخذة عند إنشاء استراتيجية اقتصادية للدولة او لأستقبال الاستثمار الداخلي والخارجي، لذلك فان سياسات الإصلاح المؤسسي في الاقتصاد العراقي تكون في الغالب مضللة ولن تنجح بسبب الصعوبات السياسية التي ذكرناها.
هذه البيئة الفاسدة افرزت طبقة اقتصادية سياسية غير مألوفة تعمل كمجموعة واحدة ضمن مصالح مالية مشتركة وتلتقي عند تقسيم المغانم لتتلوث كلها بالفساد، لكنها تتخالف فيما بينها سياسيا وتتصارع على تقسيم المناصب، ولم يكن من السهل على الشعب العراقي ان يفكك هذه الطبقة الحاكمة، خاصة وانها حاولت تلويث كل من اقترب اليها عن طريق الرشوة او المشاريع التجارية او المناصب الحكومية…
في المقابل فان “نسبة عشرة ملايين شخص هم تحت خط الفقر، مع حوالي اكثر من مليون لاجيء داخلي او مشرد بحسب البنك الدولي بالاضافة الى ازمة التيار الكهربائي المتقطع وانهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي وتدهور مستوى المعيشة وتراجع نسبة ملحوظة من السكان إلى الفقر أو أصبح معرضًا لخطر الفقر وفقًا للبنك الدولي” ايضا.
بالاضافة الى الحرب ضد ارهاب داعش وتطوع نسبة كبيرة من شباب العراق للدفاع عن وطنهم دون اي مقابل ومع انخفاض اسعار النفط وعدم وجود تنويع اقتصادي واختفاء شبه واضح للقطاع الخاص وعدم خلق فرص العمل…
انتفض الشعب بكل اطيافه على المنظومة السياسية وطالب بتغييرها كلها، ولم يعد يطالب بالاصلاح في داخل المنظومة السياسية، بل تعدت الطلبات الى تغيير الدستور ونمط الحكم ومنع كل من شارك في العملية السياسية من المشاركة مرة اخرى، فقد اتخم الشعب من كثرة الوعود الحكومية بالاصلاح مع تغيير وجوه رؤساء الوزراء فقط دون تغيير السياسات (وتستطيع ان تحصل على الارقام الاقتصادية من خلال المقالات في اداناه )
وضع الفساد الحكومي في العراق يحتاج إلى تحليل نفسي اجتماعي قبل التحليل الاقتصادي، حيث تؤكد القاعدة الاقتصادية: “ان للفساد آثارا شديدة على التنمية الاقتصادية والمجتمعية فهو ينتشر عبر أجزاء كاملة من المجتمع الاقتصادي”، لذلك تقع على عاتق الحكومة العراقية مسؤولية ضمان الشفافية ودراسة كيفية ارتباط قراراتهم بالمسؤولية الاجتماعية من خلال استراتيجية دمج مبادئ أخلاقيات العمل والمسؤولية الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع عمليات مثل الحوكمة واعادة تصميم السياسات وفقًا للإجراءات الاقتصادية والمالية وتوفير البيانات الاجتماعية والاقتصادية الصادقة…مما يحسن سمعة العراق الاقتصادية على المدى الطويل