البـاحـث الـمـنـاضـل هـادي العـلوي :
صـَرخـَة مـُسـتـَديـمة في وَجه الـظـلـم والعـُبـوديـّة
في السابع والعشرين من أيلول سنة 1998 ،
غـيـَّـبَ الـمـوت الباحث الـعـراقـي الـمـنـاضـل هادي العلوي ،
وبـوفـاة هادي العلوي يشعر المرء بأنه فقد شـيئاً من نفسه،
مع أنه لا شيء يحمل إلينا المواساة إلا أننا لن ننساه مدى الحياة ،
لأنه كان صرخة مستديمة في وجه الظلم والعبودية.
ونواسي أنفسنا بأن الحظ حالفنا لنعيش معه ،
ونعرفه ونحبه ونتعلم منه ونحني رؤوسنا نحن ،
والكثيرون من أهل هذا العصر أمام إنسانيته الجبارة المقاتلة،
وبأن الكثير من الناس سيولدون ويفتخرون به.
هرب هادي العلوي من الشهرة والأضواء،
بل كان يمقتهما و يعـدّهما من خساسات المثقفين ،
مع ذلك وصل إلينا بعلمه وفضله،
أحببناه وتلهفنا لقراءة أي بحث يكتبه، لأنه كان باحثاً من الطراز الفذ.
هـادي العــلوي والـفـلسـفـة الـصـيـنـيـة
من منجزات هادي العلوي الكبرى ، في رأيي الـمـتـواضـع ،
اكتشافه الفلسفة الصينية وشرحها لأهل المشرق العربي.
يقول هادي العلوي في فاتحة كتابه “الـمـسـتـطـرف الـصـيـني“،
الذي ألفه في بكين سنة 1992:
“حين تأهبتُ للرحيل من بغداد إلى الصين سنة 1976،
بمعونة صديقي الشيخ جلال الحنفي البغدادي،
الذي كان يدرِّس اللغة العربية في جامعة بكين،
أخبرني أن الصينيين طلبوا منه أن يرشح لهم من يحل محله ،
ممن يرضى خلقه ودينه، فاختارني …”
“لم يكن في حسابات سفري أن أجـدد ذكرى ابن بطوطة.
إذ كان الغرض أن أغادر بلدي فـراراً من الاضطهاد إلى بلد آمن.
وحين استقر بي المقام، بدأت تتكشف لي معالم حضارة مجهولة عندي ،
كما هي عـنـد بقية الأحفاد المنقـطعين عن ابن بطوطة،
ممن استهلكتهم معرفتهم للجار الأوروبي فذهلتهم عن أنفسهم.
وكان اكتشافي حذراً مـتـهـجـساً، لأن الصين لا تـفـتح نفسها للأجنبي.
وكان اضطراري إلى الاشتغال لكسب الرزق ،
يأخذ مني مواعيد اللقاء مع أهل الصين، فلا يبقى منها غير الهنيهات.
وربما حسدتُ ابن بطوطة، الذي جاء سفيراً من ملك الهند إلى ملك الصين،
بينما جئتُ هارباً من ملوكنا أحمل سفارة الوطن والأمة ،
التي ترفع الحصانة الدبلوماسية عن حاملها.
وأحمد الله على أي حال أنه لم يكن هروباً كهروب ابن هـبـّار من البصرة ،
ساعة دخلها الزنج وأخرجوا منها التجار.
كان الأول الذي ملأ هـنـيـهـاتي ،
هو المناضل الأمميّ إسرائيل إبـشـتـاين. Israel Epstein
وكان قد دخل الصين في السنة الثانية من عـمـره ،
ولازمها حتى أكمل عامه السادس والسبعين.
وكان من فضله عـلـيّ أن نبهني إلى الفلسفة الصينية،
وهداني إلى مصادرها المكتوبة بالإنجليزية.
فأقـبـلتُ عليها حتى استوفيت الإطلاع على الخطوط العامة للمدارس الفلسفية.
ثم شرعـت أتدخل في شؤون أهـل الصين ،
مـخـتـرقاً محرماتهم لكي أتعرف إلـيـهـم عن كثب.
وقد أودعـت الخلاصة مما عرفـتـه عن أهـل الصين ،
في كتاب سميته “الـمـسـتـطـرف الـصـيـنـي“،
إذ هو من نفس طراز”الـمـسـتـطـرف الـجـديـد” ،
الذي تضمن الخلاصة مما عرفـته عن ماضينا،
الذي أردتُ منه مزاحمة حسين مروة ، رائدي الأكبر ،
في سيرورة إنهاض تحتاجها أمة غافلة بتنبيهها إلى إرثها الحضاري،
الذي كان سيعصمها من الذل لو لم تنقطع عنه.
في” الـمـسـتـطـرف الـصـيـنـي” أريد من العرب ،
أن يعرفوا من ثقافة الشرق ما يعادل معرفتهم بثقافة الغرب ،
محدوّاً بالأمل في أنهم سيعيدون اكتشاف أنفسهم ،
ليس فقط من خلال تراثهم، بل وأيضاً من خلال الثقافة الشرقية،
التي هي من نسيجهم نفسه.
وليس في الكتاب ما يستهدف خدمة الصين ،
لأنها أنعمت عليّ بالأمن والحياة بعد أن تعذَّر في وطني العربي،
لأني لست من أهل الإعلام).
سيجد القراء أن أوسع أبواب كتاب” الـمـسـتـطـرف الـصـيـنـي” هو باب الفـلسفة
لأن هادي العلوي وجد فيها “حياة الحكمة الشرقية” ،
التي يتمناها بعض المـتـنـوّرين في الغـرب وتستعصي عليهم.
ولد هادي العلوي في بغـداد سنة 1932 ،
ونشأ في كرادة مريم وهي ضاحية ريفية من ضواحي بغداد …
والده عامل بناء أمي، وجدّه السيد سلمان فقيه لم يدركه،
فقد مات وعمر هادي العلوي خمس سنوات.
ولما بلغ الرابعة عشرة من عمره وبدأ يميل إلى القراءة ،
عثر على بقايا مكتبة الجد التي أهملها أولاده الأمـيـون،
ومنها نهل علومه الأولى. حفظ الـقـرآن و”ـنـهـج الـبـلاغـة“.
ولما مضى في قراءة مصادر الفقه والتفسير والتاريخ ،
تبين له حقيقة أولية هي التي كانت نقطة الانتقال،
وهي أن التاريخ الإسلامي “ليس من عمل السماء ، بل من عمل البشر…”.
أنهى دراسته الثانوية سنة 1950 ،
وتخرج من كلية التجارة والاقتصاد بتفوق سنة 1954، ،
و”زاغ” عـن مصافحة جلالته حين وزَّع الشهادات على المتفوقين،
لأنه اعتقد بأن جزءاً غير يسير من مأساة الشعب ،
سواء في جانبها الوطني أو الاقتصادي”تعود إلى تخاذل الأسرة المالكة ،
وخضوعها لإرادة الأجنبي”.
درس هادي العلوي التراث العربي الإسلامي بعمق،
وساح في كل أطرافه مكاناً وزماناً،
دخـل التراث عن طريق الدين. ، فقد قرأه بحكم نزعـته المتدينة في صباه ،
والموروثة عن جده السيد سلمان.
وكان قد وقع بين يديه كتاب الماركسي اللبناني جورج حنا،
والمعـنون “ضـجـَّة في صـَف الـفـلـسـفـة“، فاستأنس به كثيراً،
وهو كتاب بسيط يعكس شفافية جورج حنا وأسلوبه الظريف الطليق.
وهذا يعني أن هادي العلوي انتقـل إلى الماركسية من خلال التراث نـفـسـه.
ولم يتخلّ عن التراث لأنه صار ماركسياً،
كما يفعل كثيرون عندما ينتقلون من حالة التدين ،
فينبذون كل شيء وراءهم، ليتأدبوا بطريقة أحادية،
لأن دراستهم السابقة للتراث إيمانية وليست شكيّة.
والدراسة الإيمانية لأي مذهب ،
تمكن من الانتقال الفجائي والقاطع إلى المذهب الآخر.
إن الطريقة المثلى للتطور الفكري عند الإنسان ،
كما اكتشفها هادي العلوي بتجربته الشخصية ،
ومن قراءته لتجارب مفكري الإسلام في عصورهم الذهبية ،
هي أن يكون “تداخلياً وليس ارتدادياً”،
وذلك حين ينطلق من نقد المقروء بالاستناد إلى معرفة فلسفية.
وأغلب الظّن أن الذي مكّن هادي العلوي من السير في درب الماركسية الرحب ،
هو تأثيرات وضعه الطبقي في العائلة،
لأنه عاش الفقر والجوع مع والدته ،
مما غرس في وعيه المبكر كرهاً للأغنياء ولدولة الأغنياء.
ومما زاد الطين بلّة اكتشافه أن الإسلام يبيح التملك الخاص،
ويسمح بتقسيم الناس إلى مالك ومحروم وخادم ومخدوم.
ترافق ذلك مع استمراره في القراءة واكتشافه المزيد من النقاط الحساسة ،
التي صدمت وعيه الطبقي ونزعة الشك والبحث عنده ،
وعدم خضوعه للجو السائد، وهذه حقيقة زاملته منذ الصغر.
كل ذلك رفده كي ينتقل إلى صفوف الماركسيين.
في أوائل الخمسينيات اكتشف جريدة (الأهالي) لصاحبها المناضل الوطني ،
كامل الجادرجي فصارت جريدته المفضلة…..
في نفس الفترة الزمنية تعرف إلى علي الشوك،
المثقف العراقي وأحد أميز المثقفين في العالم العربي.
توطدت معه علاقة متأخرة في الزمن ،
لكنها أضافت الكثير إلى مخزونه المعرفي.
والأهم في هذه العلاقة أنها ساعدت هادي العلوي ،
على التخلص من عناصر تخلف حضاري حملها معه ،
من بيئته البائسة المتحللة حضارياً،
كان علي الشوك مصدر تأهيل للوعي والسلوك الحضاري واسترفاده.
بدأ هادي العلوي نشر بحوثه بعد أن استكمل أدوات المنهج الماركسي،
وكان أول بحث قد نُشر في مجلة (المثقف) سنة 1960 ،
التي كان يصدرها العّلامة الباحث علي الشوك،
وكان البحث عن أبي حيان التوحيدي وكتابه (مثالب الوزيرين).
–
عـمـل هادي العلوي من خلال بحوثه وكتبه ،
على كشف مآثر تاريخنا وخطاياه دون انحياز ،
أو مستبقات عقائدية مع الاستعداد دوماً لتقبل التفكير ،
في الأضداد والنقائض في أي مسألة يختلفون عليها.
“إن العقيدة هي شر ما يملكه أهل العلم،
وهي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي.
والمسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حرية الضمير.
وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخي معين،
يجب أن تبقى في منأىً عن العقل الباحث ،
لئلا تكون ـ كما يقول الغزالي ـ حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء.
فمثلاً حين يُفرِّق هادي العلوي بين إسلام حي وإسلام ميت ،
يرجع إلى التفريق بين إسلام الدين وإسلام الحضارة.
فالإسلام كمصطلح تاريخي يشتمل على العنصرين،
وقد عاشا معاً فيما نسميه العصر الإسلامي،
وهو عصر الحضارة الإسلامية الذي بدأ وانتهى.
بمعنى أنه لم يعد قائماً، أي أننا لا نعيش الآن في عصر الإسلام.
ولقد تعايش النمطان من خلال الصراع واقتسما الساحات،
وكان لكل منهما بصماته على مجمل السيرورة التاريخية لذلك العصر.
انضم هادي العلوي إلى هيئة تحرير مجلة (النهج) ،
التي كانت تصدر عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي.
وراح ينشر على صفحاتها دراساته المهمة، وقد أضاف إلى مجلة (النهج) ،
بعداً جديداً كانت بأمس الحاجة إليه، وقد ساهم في إعادة تأسيسها.
كان شعلة متوهجة ، يعمل في التحرير يكتب ويهمش ويبدي الرأي ،
في الكثير من القضايا المطروحة. وقد تميزت فترة ارتباطه بالنهج بغزارة الإنتاج ،
وارتقاء في النوعية. كان ينتج وكأنه في سباق مع الزمن، وكان يريد أن يخلّف لنا شيئاً من روحه وقد فعل.
رحل عن دنيانا في خريفٍ باهت وحزين، دفن في مقبرة السيدة زينب قرب دمشق. فإلى روحه الطاهرة نطأطئ رؤوسنا ونشعل شمعة علّها تضيء لنا نحن الأحياء دروب الحياة.