البحث عن مكان (9)
من رواية الإرهاب ودمار الحدباء
عصمت شاهين دوسكي
قابلية التأثر الشديدة في كل مجتمع إنساني لسرعة توجه المشاعر لغرض وهدف محدود قوية مهما ظهرت إشارات الهدوء والسكون فإنها في حالة ترقب واستعداد فالتأثير يكون سهلا سواء كان الهدف كيفية إحراق بيت أو تدمير منزل ،فالمشاعر تندفع له بسهولة خاصة إذا كان الأمر يتوقف على زمن طبيعي لأكثر من ثلاثة عشر سنة بفعل المكوث والتفاعل في حدود المكان ،والشعور والتأثر بذات الإحساس القوي كإحساس الأشخاص الذين لا يمكنهم الاستعانة بغير ذلك المكان المنزل المدمر، بعد تدمير الذكريات الجميلة والأحلام الجليلة والمواقف العليلة والآمال الكفيلة لرؤية الحياة ، رؤية المستقبل بلا أنات وآهات ، تصديق الواقع المؤلم يحتاج إلى إرادة قوية وقبلها إلى عون الهي بإيمان لا حدود له بالقدر بما هو خير أو ضرر ، فالواقعة ليست سهلة بسيطة للغاية ولا هي باقة ورود ملونة في زاوية ،فكل تخيل مؤلم يجر إلى تخيلات لآلام وجراح ومآسي وظلام بينها علاقة زمنية ، روحية ، حسية ، لا تنئ عنها لفترة زمنية ،ندرك هذا حينما نتذكر ما قد يتوارد علينا من أفكار غريبة عنا تدغدغ مشاعرنا ، تلهب إحساسنا تلمس عواطفنا لمجرد تخيلنا واقعة لواقعة من وقائعنا المؤلمة القاسية ،والفرق بيننا وبين الصراعات الداخلية والخارجية التي هبت عليها رياح الهزيمة ، وجودنا ، صبرنا ، وعينا ،إرادتنا ،فإن العقل يرشدنا لكي نفرز في التخيلات بين التنافر والتباين على أن لا يشوش الخيال أصل الواقعة التي جمعت بعض الضباط وأفراد الجيش وهم يؤشرون على بيتنا فجرا وقالوا لنا ونحن نهب للخروج : هذا البيت قصفناه ، نحن من أعطى أوامر للطيار إن يقصفه .
سألوه الناس ومن ضمنهم أم سيلين بحزن واسى مع البكاء :
سيدي هذا بيتنا ، ما صدر منا شيء ،ما ذنبنا نحن نتشرد .؟
وأعقب أبو هيثم جيراننا :
والله سيدي بيت أبو سيلين مسالمون وكل الناس بالمنطقة يحبونهم بل هم أفضل الناس .
فأجاب الضابط بأسف مطأطأ الرأس :
نعم سمعنا من أهل المنطقة عن بيت أبو سيلين والكل يحمدون بهم ، لكن رصدنا قرب بيته وفوق السطح داعشي يرم علينا بكثافة وقتل من أفرادنا شهداء فعالجه الطيار بصاروخين .
إن تنوع الصور وحركة الجماعات بين البيوت المدنية خلقت صور تشويش للأمزجة العسكرية الذين يصدرون الأوامر ويعالجون الأهداف الداعشية ،لكن المشاهدة الرؤية ليست كالدمار على الأرض فمن رؤية شخص داعشي دمر بيت كامل ،وتشردت عائلة كاملة ، يا ترى كم من المنازل هدمت ؟ وكم من الأسر هجرت ؟ وكم من الأرواح زهقت ؟ بعامل الرؤية الضبابية القصيرة النظر المنهجية الخطر ، خرجنا من المنطقة الفجر ،ومشينا مع بعض الناس الذين التحقوا بنا لنسير معا حاملين حقائب وإشارات بيض لكي يعلم العسكري نحن مواطنون مسالمون رجالا ، نساء ، أطفالا ، وكانت أم سيلين بطيئة السير لا تقوى على المسير لمسافات طويلة ،فكنا نسير ونتوقف ممسكا بيدها أعينها على السير ، رأينا قصورا ومنازل دمرت خراب كبير في كل مكان ،والسيارات العسكرية دائمة الحركة والجيش العراقي متفرق مجموعات هنا وهناك مع أفراد الشرطة الاتحادية ،فمرت سيارة عسكرية والسائق ينظر إلينا مما شجعنا أن نطلب منه مساعدتنا وتوصيلنا لمنطقة آمنة فوافق وركبنا وساعدتُ أم سيلين على صعود السيارة العسكرية المكشوفة وفي الطريق الذي لا يخلو من الدمار أرتال من الجيش مع معداتهم يسلمون علينا ويرفعون علامة النصر بيديهم وأمواج البشر يسيرون على الأقدام إلى أن وصلنا إلى ” حي الوحدة السكني “حيث وصل السائق لمكانه نزلنا أدينا تحية الشكر بكلماتنا الحزينة ، الأفواج الأسرية من كل الفروع والشوارع تخرج وتتحد في شارع رئيسي ، كبار السن من الشيوخ والعجائز والمرضى عبء كبير ، هذا يحمل أمه على ظهره والآخر يحمل أباه ومنهم على عربات يدفعونها ،ولكي لا تتعبنا أم سيلين أجرنا عربة صعدت إليها وجلستْ يدفعها شاب وأنا معه فأصبح سيرنا أسرع إلى أن وصلنا إلى ( حي الميثاق ) ،لأول مرة نرى أسواقا مفتوحة منذ أشهر من الأزمة ألوان الفواكه والخضر تلمع وحياة شبه طبيعية ،وصلنا إلى موقف للسيارات المدنية التي كانت تنقل الناس إلى مناطق أكثر أمنا ،وحيث قررنا الذهاب إلى بيت أخت أم سيلين في ( حي الزهراء ) الأكثر أمانا ، أجرنا سيارة وطول الطريق الاتصالات من الأقرباء والأصدقاء لا تنقطع للاطمئنان علينا ،سائق السيارة وضع في مسجل السيارة كاسيت موال حزين ، فبدأ الجميع يبكي فالتأثير ما زال مشهودا وفاعلا في الأعماق فقال له ( أبو ميس) الذي صعد معنا وجلس في المقعد الأمامي وأنا وأم سيلين وسيلين في المقعد الخلفي ، فقال له أبو ميس :
أرجوك بيت أبو سيلين دمرته الصواريخ الجوية .
السائق بسرعة أطفا مسجل السيارة وقال وهو يرى دموعنا .
أنا آسف جدا ، هذه الحرب العشوائية لم تترك بيتا إلا وتركت فيه أثرا حزينا .
وبدأ السائق يسرد عن حادثة موت أبيه وأخيه والأسر العائلية من أقربائه وهدم وتدمير بيوتهم من جراء القصف وظلم داعش التخريبي ، ولكي يخرجنا من حزننا روى نكات ولطائف عن تصرفات داعش وتصرفات بعض أفراد الجيش وجعلنا نبتسم ونظرنا من خلال نافذة السيارة رأينا سيارات الإغاثة والمنظمات الإنسانية توزع سلالا غذائية بشكل عشوائي وهرج ومرج وصراع حول السيارة وسيارات أخرى تسير بسرعة ويركض وراءها أفواج من الرجال والنساء والشباب والأطفال للحصول على سلة غذائية وربطة ماء نقية ، إلى أن وصلنا إلى بيت ( أم دلال ) أخت أم سيلين في منطقة ” حي الزهراء السكنية ” رأينا الأسواق مكتظة بالناس كأنهم خارجون من سجن عميق تحت الأرض ، المنطقة آمنة دبت فيها الحياة ،وصلنا دخلنا بيت ( مازن ) زوج أخت أم سيلين وقابلونا بالأحضان والحرقة والدموع وأم دلال تواسي أختها أم سيلين بكلمات إنسانية عاطفية في القدر الذي وقع علينا ، وخرجت لأرى الأسواق القريبة من البيت ووقفت أتأمل البشر، نحن لا نعرف حقيقة سير أحداث الحرب الداخلية بوجود المدنيين ، ولكن الذي نعرفه هو الغالب والمغلوب ،وربما تصل التقارير العسكرية إلى الجهات العليا ،ما مضمونه إن الحرب الداخلية تسير كما رسم لها على قول ومشاهدات المئات من العساكر فيتناولها الضباط المكلفون بتبليغ الأوامر والتقارير ، ربما يعدلون فيها إلى أن يصلوا إلى النسخة النهائية وقد يعيدها ضباط أعلى رتبة ويعيدون تحريرها من جديد على حساب المعلومات ثم تعرض على القائد العام ، وان لم يرض القائد العام يحل محلها غيرها فلا يبقى من أصل التقرير إلا اليسير ، فالوصول إلى الحقائق الحربية الداخلية لصعبة بين المدنيين حتى لو ضبطت لساعتها يكاد يكون الأمر صعبا ومستحيلا ، انتقلنا من بيت أم دلال إلى بيت أختها الثانية ( أم نور ) في ( حي القادسية ) كون عظم الإنسان ثقيل كما يقولون مهما كانت الأزمات شديدة ثم ذهبنا لبيت نسيبنا محمد وعدنا بعد أيام لبيت أم دلال ، وبين غلو المشاعر وبساطتها أصبح أمر وضعنا بديهيا واقعيا لا يقبل البحث والشك والتردد فصورة بيتنا المدمر في عقلنا الباطني والخيالات والتأثير ما زال ثائرا في ضجة النهار وسكون الليل الذي يشهد على صمتنا ودموعنا ، فقررنا الرحيل إلى مدينة ( دهوك ) رغم تحذير الجميع بصعوبة الأمر .
************************
* تابع الجزء العاشر والأخير من رواية الإرهاب ودمار الحدباء