يمر الكائن البشري خلال وجوده بعد تبلور الظاهرة المجتمعية بطورين من “ألأعقال”، احادي ادنى، وازدواجي تحولي، معامل قياسهما الرئيسي، الظاهرة المجتمعية التي تنتظم العملية العقلية وعمل العقل، وترعى بالتفاعل جركة ارئقائه وتصيّره ضمنها، باعتبارها الطور والعتبه الأخيرة السابقه، قبل بدء التحرر العقلي من الجسدية الارضوية، وقتها لايكون العقل قادراعلى، ولاتتوفر له الأسباب الضرورية للاحاطة بالحقيقة والمضمر المجتمعي المميز للظاهرة المجتمعية، بما هي ظاهرة تحولية، ذاهبة الى الانقضاء والى انتهاء الصلاحية.
وأول مايظل العقل عاجزا عن مقاربته، فضلا عن استيعابه، الحقيقة المجتمعية بما هي شمول تعبيري متضمن لطبيعته المفردة بما هو كائن مزدوج، من ( جسد/ عقل)، يبدا طور وجوده المجتمعي بغلبة الجسدية التي هي بقايا الحيوانيه السابقة على انبثاق العقل، تظل عالقة وخلال الطور الأول من المجتمعية متغلبة وحتى طاغية على العقل تصادره فتلحقه بها، وتجعل منه ” عضوا” مكملا من بين أعضاء الجسد الأخرى، لازم وضروري لاكتمال الكائن الجديد مابعد الحيواني.
وفي الامثلة فان الكائن البشري ينظر الى ذاته بعد الاف السنين من المجتمعية وبداياتها على انه “حيوان ناطق”، او “اجتماعي”، او “عاقل”، بينما توضع تسمية ” الانسان” ابتداء في تناقض صارخ مع مايستدل لاعليه بدل ” الانسايوان” الاقرب للصحة واكثر انطباقا على واقع الحال، بحكم دلالتة على التفارق بين الانسان “كعقل” او غلبة عقلية، والحيوان الذي هو “الجسد”، مع الاخذ بالاعتبار للمسار الناظم لصيرورة الكائن مدار النظر، وخضوعه لعملية ارتقاء هدفها بلوغ عتبة “الانسان” الكائن المتخلص من الجسد ية الارضوية، والمتحرر من وطاتها.
تسهم العلاقة بالطبيعة بقوة ان لم يكن بحسم، في تكريس الارضوية الجسدية وباعتبارهذا العامل الفاعل المقرر لانماط المجتمعات، فانها تجعل الرابط الموصل بينها وبين الحاجات الحيوية للجسد وتلبيتها، محركا رئيسيا وانشغالا اول يبيح القول بان الكائن البشري محكوم بالدرجة الأولى الى “الحاجات الحيوية”، ومايضمن استمرار الجسد، هذا ماركز عليه ماركس ومااضيف عليه أخيرا وبمناسبة طرفة “نهاية التاريخ”، عنصرا جديدا هو “طلب المجد” وهو عنصر معنوي معرف هو الاخر ضمن مناخات الارضوية، والمهم هنا ان غلبة أنماط الأحادية المجتمعية لاتتيح أي مجال لرؤية ماهو خارج عن شكل، او صيغة العلاقة السائرة المجتمعية العقلية المائلة لصالح غلبة الجسد بالمطلق.
حتى اذا عرف نمط كائن بشري ميال للالوهية ( الانسان الاله على شاكلة وصيغ تجليها المتاخرة في الحلاج والنبي عيسى بن مريم ) كما الحال في الابتدائية السومرية، فان مثل هذه الظاهرة لاتجد لها مكانا، وحين يراد تفحصها او محاولة تسميتها فانها تلقى بحسب المنظور الأحادي الارضوي الى “اللاواقعية”، او الى السذاجة الطفوليه، وهو مايحيل “الواقع” الى حكم الجسدية، ومن ثم يكبل العقل ويمنعه من أي شكل من اشكال الاستقلال ولو بحالته واولى درجاته الابتدائية.
لم يحدث ان نظر الى التاله البشري على انه نزوع عقلي للتخلص من وطاة “الواقعية” الجسدية، بدل المعروف من اشكال تفسير الدافع “الديني” المفارق للارضوية كنزوغ بشري، حتى وان بدا من نوع الخاصية الأساسية في الكينونه البشرية، وربما لانه يبدو كذلك ولا يتوقف عن التجلي بلا توقف بمواضبة واصرار، لكن كيف يمكن التخلص من وطاة الجسد وحاجاته من دون عنصر من خارج الثنائية الجسدية العقلية، او بإضافة عنصر معادل للارضوية التي تسند موقع الجسد في المعادلة بالذهاب الى اعلى، وافتراض القوة التي لاتحتاج للغذاء، ولا للحاجات البشرية كلها، وتملك القدرة والامكانيه التي تجعل منها فوق الجسد وخارجه “اللاتجسيدية”، وقابلة لان تتحكم به وتقرر مصيرة، بحيث يصير “المطلق” حاضرا مفارقا اعلى، متعال على الارضوية الجسدية، ومحاط بعالم ينتمي اليه، هو العالم اللاارضوي.
لاتشبه هذه المقاربة المطموسة والمبعده عن نطاق التفكر البشري، ماهو غالب من اشكال التفكر الأحادي، باعلى اشكاله وقمتيه، الاغريقيىة اليونانية، والاوربيه الحديثة، بما هما شكلي التجلي الأعلى للتفكرية الجسدية الارضوية “العقلانية”، و “الواقعية”، كما يطلق عليهما تاكيدا لارضويتهما وجسديتهما التي توحد الكائن البشري، كما توحد الظاهرة المجتمعية وتؤبدها بنفيها عنها حقيقتها الازدواجية التحولية، هناك حيث الاشتراطات الحياتيه الوجودية، مافوق ارضوية، ومابعد جسدية،التسامي عندها وفيها من الجسدية الى الالوهية، ومن الارضوية الى السماوية، مجال وعالم دال ومجسد للتفارق العقلي الجسدي، وتعيين لشكل اخر من التجلي المقابل للارضوي الأحادي.
من خاصيات الوجود والمجتمعية منه بالذات، ان لايكون المسرب اللاارضوي قابلا للادراك، فهو مكتوب له ابتداء الانتكاس بسبب “لاواقعيته التحققية المتضمنة في واقعيته”، وهو امر نوعي وتفارقي بين صنفين وعالمين من الحضور، فالتجلي التالهي الابتدائي السومري، واقعي، وهو حقيقة ملموسة استنادا الى البنية الازدواجية واللاارضوية المجتمعية، الا انه موضع وحيد من جهة، أي غير متكرر وفريد على مستوى المعمورة، وناقص غير قابل للتحقق، لان العوامل والأسباب البنيوية غير كافية بحد ذاتها لتحقيق مبتغيات العقلية الانفصالية عن الجسد، ولابد من توفر عنصر هو العامل التحولي المادي ( الالي / التكنولوجي)، كي تكتمل عملية حضور العقل المستقل، وشكل تجليه النهائي. وهذا جانب أساس يقع التجلي العقلي الأول الابتدائي بناء عليه في الانتكاس، ومن ثم الاضطرار للتجسد النبوي ليتلائم وشروط الانتظار، ونوع الحضور الممكن في ظل وبرغم غلبة الرؤية والمفهوم الارضوي.
هذا في الوقت الذي يتيسر فيه للجانب الجسدي الارضوي بداهة، ماهو ضروري لكي يسود باعتباره هو النموذج المقرر للحياة والكينونة البشرية، مستفيدا لاجل ذلك من قصور الرؤية العقلية بصيغتها التالهية الأولى من ناحية، ومن غلبته الكاسحة جغرافيا على مستوى المعمورة، ما من شانه ان يبرر القول بان المجتمعية والكائن البشري في ظلها، محكومة للمرور بطورين، الأول احادي تابيدي جسدي ارضوي، طويل يأخذ بالانتهاء ابتداء من توفر الأسباب، او الوسيلة الناقصة الالية التكنولوجية اللازمة لاكتمال عملية الغلبة العقلية الارضوية، وبدء تراجعها، وصولا لاختفاء سطوة الجسدية وهيمنتها المفهومية والحياتيه بعامه.
في الاثناء وابان وخلال فترة غلبة المنظور الأحادي الطويله، والتي تستغرق بضعة الاف من السنين، يترسخ لحد التكلس المنظور المفارق الاخر، نتاج العقلي التالهي، بينما تستمر اشكال تجليه النبوية مابعد التالهية، باقية من دون تفاعليه هي افتراضا من مواكبات تغير الاشتراطات، بمعنى تبدل الظروف من حيث الأساس والمسببات التي جعلتها موجودة، وبررتها كمؤقت ولزوم اضطرارابان زمن بعينه، الامر الذي لم يلحظ حصوله بعد، مع ان السبب الرئيسي الذي أوقف في حينه وتاريخيا العملية التحولية، اخذ بالانتفاء ابتداء من الثورة الالية الاوربيه، ومن ثم وبفضل الكيانيه المفقسة خارج رحم التاريخ التكنولوجيه.
تسير الرؤية اللاارضوية الازدواجية، من التالهية، ثم مضطرة الى النبوية باكمل اشكالها، الابراهيمه، فتتجسد خارج ارضها، وتعم كمفارق دال على شمول الازدواجية للظاهرة المجتمعية بعمومها، مع تدرجات، من شكلها الأعلى الى الاشكال الأدنى داخل الاحاديات الغالبة انتشارا وتكرارا، لتعود في نهاية المطاف، وبعد اقترابها من عالم التحقق وتوفر أسبابه، الى الصيغة العلبا من التالهية التحولية مابعد النبوية، مرتكزه لمجمل تاريخها، وتراكم اشكال تجليها ابان زمن الامتناع عن التحقق، وثصور الادراك العقلي، بعد ان تصير الأسباب والوسائل الضرورية للتدخل في مفاعبل الجسدية، وقوة حضور الحاجات الحياتيه الحيوية ممكنه، ويغدو متاحا الانتقال الى البدئية الثانيه، حيث المغامرة الفلسفية والاعقالية الأخيرة بعد الأولى التي تم بموجبها اعقال الوجود حسيا.
الوجود بعكس المتعارف عليه اعقالان: لاارضوي ازدواجي تحولي، وارضوي جسدي، يتحولان لاسباب “موضوعيه” الى نوع ومستوى من الاعقال، هو الدالة والمؤشر على حالة العقل وقانون تصيره من الأدنى الى الأعلى، بعلاقته بالمجتمعية كظاهرة من حيث الحقيقة والمنطوى، ومايشار اليه ليس وضع افتراقي بين رؤيتين، احداهما تظل مطموسة وحسب، بل هما حالتان متفارقتان كيانيه ووجودا جغرافيا، لكل منهما تجليه الاكمل الكلاسيكي، اللاارضوي الازدواجي التحولي، بؤرة ومركز تجليه وفعاليته ارض مابين النهرين، والأخر المقابل له بؤرة تجل اعلى وارفع دينامية داخل نمطها، متمركزه في مجتمع الازدواج والانشقاق الافقي الطبقي الأوربي، الأول منهما غير قابل كينونة وبنية، لانتاج الوسيلة التي يفتقر اليها كي يذهب لتحقيق ذاته ابتداء، ولا في الطور الثاني الامبراطوري العباسي القرمطي الانتظاري الأعلى، بينما يتوفر النمط الاخر الأوربي تحقيق الانتقال الى الالة، والاعلان بها عن نهاية نمطة واشباهه، أي فتح الباب امام الانتقال الشامل الأحادي الى التحولية، بعد ان يكون مركزها الأول، ومكان انبثاقها البنيوي والاعقالي، قد صار مهيئا للنطق والافصاح عن ذاته وكينونته التي هي كينونة الظاهرة المجتمعية، ومنطوى مسارها ومنتهاها.
-الانسايوان- والطبيعه: مقاربتان عقليتان؟/2
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا