الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (74)
للخليل ألف تحيةٍ وتحية
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
الخليل المدينة الفلسطينية المقاومة، الشامخة العتيدة، القديمة العتيقة، العوان في الحرب، والثفال في القتال، والسارية في الخطوب، والكنانة في الرجال، تعاند وتجابه، وتتصدى وتواجه، وتقاتل وتجالد، وتصبر وتحتمل، وتعض على الجرح وتحتسب، لا تبال بالخطوب، ولا تخشى النوائب، تنسج من الألم خيوط النصر، ومن الوجع تجدل حبال الحرية، ومن الجبال تقد الصخر ثباتاً، وتشق في الأرض لها جذوراً، وتنغرس في جوفها أصولاً، ولهذا فإنها لم تعد كأي مدينة وإن كانوا لها أخوات، ولم تعد تشبه غيرها وإن كانوا مثلها في الصفات، إنها نسيج وحدها، سقفها السماء، وكيزانها النجوم، إذ لا يدانيها أحد، ولا تقوى مدينةٌ على اللحاق بها، أو السباق في مضمارها، فميدانها فسيح، ومسارها طويل، ومنحنياته كثيرة، والعقبات فيه صعبةٌ وكبيرة، ولكنها تعرف كيف تخوض الصعب، وتتحدى العقبات، وتنتصر على التحديات، لأنها مدينة تريد أن تنتصر.
لا تستطيع عقولنا أن تتفتق عن شكرٍ يليق بها، ولا أن تبدع أقلامنا في مدح عملياتها، ولا تعرف ألسنتنا كيف تلهج حمداً على دورها، ولا نستطيع بحالٍ أن نقدر تضحياتها، ولا أن تجود مخيلاتنا بما يوازي ما تقدم، أو يساوي ما تعطي، إذ ما كان لمحدود أن يدرك مطلقاً، وعقولنا عن تضحياتها قاصرة، ونحن أمام سيل عطائها وجود سخائها حيرى، ولكن عزاءنا أن من يتغنى بالقمر ليس مثله، ولكنه به يتغنى، ومن يشيد بالكرم يتمنى أن يكون من أهله، ومن يذكر الشيم يسعى أن يتصف بها، أو أن يتحلى ببعضها، وكذا نحن بالخليل نتغنى، وبأمجادها نشيد، نغبطها ونشكرها، ونفخر بها ونزهو، ونتمنى أن تكون كل فلسطين مثلها، نكيد بها العدو ونؤلمه، ونبكيه ونحزنه، ونضيق عليه عيشه ونطرده.
والخلايلة غير مضطرين لمغادرة مدينتهم للبحث عن أهدافٍ إسرائيلية لمهاجمتها، إذ أن مدينتهم تغص بالمستوطنين الذين ملأوا جوانبها، وسكنوا في أطرافها، واحتلوا القلب منها، وبنوا المستوطنات فيها وفي محيطها، ما يجعل أهداف المقاومين منهم كثيرة، إذ هي منتشرة وموزعة، ومع ذلك فإن أبناءها يخرجون منها إلى القدس ومدنٍ أخرى للبحث عن أهداف جديدة، ومهاجمة العدو في مناطق أخرى، وقد نجحوا فعلاً في حمل شعلة الانتفاضة إلى أكثر من مكانٍ، وإن كانت الانتفاضة في كل الوطن مشتعلة ومتقدة، فإنهم يزيدونها لهيباً، ويسعرون نارها أكثر.
لا يجدي مع مدينة الخليل ومحافظتها التي أدمتها الاجتياحات، وأوجعتها التوغلات، السياسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، فهي اعتداءاتٌ وإن قست فإنها لا تضعفهم ولا تفت في عضدهم، ولا تدفعهم للتراجع أو الانكفاء، بل إنها تزيد من إرادتهم الصلبة، وقدرتهم على الصمود الرائع، ولعل خير من يعبر عن فشل سياسة الاحتلال أمام صمود الخلايلة هم الإسرائيليون أنفسهم، فهذا يهودا شاؤول وهو أحد الضباط العسكريين العاملين في مدينة الخليل يقول “الخليل تظهر فشل سياسة إسرائيل في الضفة الغربية، فاستمرار سيطرتها العسكرية على المدينة سيجلب موجات دامية ومتلاحقة من العنف”.
وتسائل متحسراً “كيف تحولت الخليل رغم الوجود العسكري المكثف، إلى المنطقة الأكثر توتراً في الضفة، هذا يؤكد أن سياسة تعزيز سيطرة الجيش على الفلسطينيين قد نجحت في تدمير حياتهم وتخريبها، لكنها لم تنجح في جلب الأمن للإسرائيليين”.
ولهذا السبب فإن بعض الإسرائيليين يوجهون انتقاداً إلى حكوماتهم المتعاقبة، ويحملونها مسؤولية إيجاد مبررات للمقاومة، وتسهيل عملياتها التي تستهدف المستوطنين والجنود وغيرهم، إذ أنهم قد سمحوا لليهود بالانتشار في المدينة، والتوسع فيها على حساب المواطنين الفلسطينيين، والتضييق عليهم ومصادرة أرضهم وانتهاك حقوقهم، وبذا فإن الحكومات الإسرائيلية هي التي تعطي الفلسطينيين المبرر الشرعي للمقاومة والقتال، والطعن والدهس والقنص وغير ذلك مما يجب أن يتوقعه المحتل ممن اغتصب حقوقه واحتل أرضه.
وفي هذا السياق يذكر المحرر الإسرائيلي آفي يسخاروف، وهو مهتم بالشؤون الفلسطينية، ويعرف الكثير عن تفاصيلها، في معرض انتقاده للحكومة الإسرائيلية التي يحملها المسؤولية عن كثرة العمليات التي تقع في الخليل، والتي لا تجدي الإجراءات الأمنية في محاربتها، ولا الوسائل العنفية في وقفها “مدينة الخليل مدينةٌ مختلطة من العرب واليهود، ومسلحوها ليسوا مضطرين للخروج منها واجتياز الحواجز العسكرية للوصول إلى المدن الإسرائيلية، والبحث عن أهداف مرشحة لضربها”، وكأنه بانتقاده المباشر للحكومة يدعوها إذا أرادت أن تنعم بالأمن والسلامة، والطمأنينة والهدوء، إلى الانسحاب من مدينة الخليل، وتفكيك مستوطناتها منها، ورحيل مستوطنيها عنها، والكف عن توغلات جيشها فيها وحملاته عليها، وإلا فإن على الحكومة أن تتوقع من الخليل صيفاً قائضاً أبداً، وشتاءً زمهريراً دوماً.
لو كتبنا كل يومٍ عن مدينة الخليل فلن نفيها حقها، ولن نكافئها على عطائها، ولن نكرر شكرنا على ما أعطت وقدمت، بل سنشكرها على الجديد، ونرفع لها التحية على المزيد، وسنحاول أن نجد عباراتٍ جديدةً، وتهاني أخرى تليق بها، فلا نكرر ما سبق، ولا نعيد ما سُمع، بل نجتهد بالبديع، ونسعى للجميل، فهي تستحق وتستأهل، إذ أنها لا تتغني بالقديم، ولا تكتفي بما أنجزت وحققت، بل تأتي بجديدٍ آخر، وتقوم بعملياتٍ أخرى أروع، تشدهنا وتفاجئنا، وتجبرنا على أن نقف أمامها مستغربين ولكن فرحين، لهذا فهي توجب علينا أن نجدد لها الشكر والتحية، وأن نعظم عطاءها وتضحياتها، وألا نكتفي لها بشكرٍ يتيمٍ وتقديرٍ سابقٍ، وثناءٍ ممجوجٍ ومديحٍ مكرورٍ، إنما يجب أن يلهج لساننا بشكرها دائماً، وأن يذكر فضلها أبداً، فإنها الخليل، رائدة الانتفاضة، وقائدة المسيرة وحادية الركب، وصانعة النصر، وأكثر من يشحذ الهمم ويضحي، وأعظم من يقاوم ويشفي الغليل ويرضي النفس ويكيد العدو.
بيروت في 1/1/2016