عمر العكيلي
أضافت مشاهد الفوضى العارمة التي شهدتها بريطانيا في الأسابيع الماضية ومشاهد الاحتجاجات الأمريكية في وول ستريت حلقة أخرى إلى بانوراما المطالبة بحقوق الشعوب التي تضيع في دهاليز السياسات التي تتحكم فيها مصالح الشركات العملاقة وسماسرة السياسة المتربعين على صدر الشعوب. أغلب الذين خرجوا إلى الشوارع البريطانيّة وخربّوا الممتلكات كانوا من فئة الشباب، وعلى الأخص الذين يفتقدون للسكن أو العمل. وكانت هذه الاحتجاجات نتيجة رفع الحكومة البريطانية من سقف الضرائب، في ظلّ تراجع اقتصادي مريب، مما أدى إلى تفاقم النقمة الشعبية في الشارع البريطاني، و دفع الى موجة شغب متعمّدة طالت الممتلكات الحكومية والأهليّة.الربيع العربي لم يكن بِمعزلٍ عن الأزمة الاقتصاديّة، فمعظم الشباب الذين تواجدوا في ميدان التحرير في القاهرة، دفعتهم ظروفهم المعيشية الصّعبة إلى مواجهةِ الموت المنظّم الذي مارسته حكومة مبارك تجاههم ووقفوا وقفة جادة أدت الى سقوط النظام ووصول رموزه إلى أروقة القضاء المصري. شباب تونس، لم يختلفوا كثيراً عن شباب مصر، وشباب ليبيا الذين عانو بطش نظام القذافي لـ42 عاماً، ورأوا السلطة تبيع دماءهم وأروحاهم للغرب، لاسيما بعد فضيحة الايدز الذي نقلته مجموعة الممرضات البلغاريات إلى أكثر من ألف طفل من أطفال مدينة بنغازي، كل هذا أدى إلى انفجار شعبيّ مدوٍّ وقوده اليأس من مستقبلٍ مبهم في ظل حكومات أتقنت الفساد والقمع، ورفضت التحوّل إلى أنظمة ديمقراطيّة والتداول السلمي للسلطة.أمّا سورية التي تداخلت فيها رؤوس الأموال مع الاموال العامّة وسيطرت على حركتها واستثماراتها، وتَعَامُل عائلة الأسد مع سورية وكأنها حضيرة ورثتها عن أجدادها، فقد دفع شبابها إلى القيام بانتفاضتهم السلمية ووقوفهم عاري الصدور أمام دبابات السلطة التي تجول في الشوارع كغيلان تلتهم كلّ شيء.المحصّلة، فإن ربيع الثورات العربيّة، هو انفجار شعبي كان سببه الرئيس الوضع الوظيفي الناجم عن تردي الاقتصاد، لكن بالمقابل، هل سيتعافى هذا الاقتصاد بعد انبثاق هذه الثورات، وبعد ان تسلّم الحكّام الجدد مناصبهم، وحجزوا مقاعدهم في هرم السلطة المشتهاة والتي حصدوا ثمارها بعد أن فلح أراضيها شباب غاضب يعاني الأمرين ويعاني أزمات متتالية؟!.هذا السؤال قد يراه البعض مبكِّراً، لكنه يرسم ملامح المستقبل التي ذهبت جرّاءه آلاف الأرواح الشابّة.في تونس، أثمرت الثورة على المستوى الانتخابي تقدّماً يعدّ هائلاً لاسيما في بلد كان تحت وطأة دكتاتور مثل زين العابدين بن علي، إذ تقدّم حزب النهضة من جانب، ومن جانب آخر وصول نسبة الاقتراع إلى 90%، وهي نسبة تفتقدها الكثير من الأنظمة الديمقراطية الأوربيّة، مما يشي بأن الشعب التونسي، الذي فجّر شرارة ثورته انتحار البوعزيزي حرقاً، لن يصمت طويلاً إذا ما تعثّرت مساعي الحكومة التونسية الجديدة في إنعاش الاقتصاد بعد أن عانى في الشهور الماضية من نوبات غيبوبة واضحة، لذلك، ستحاول الحكومة جاهدة بأن تلبي نموّاً اقتصاديّاً من خلال طفرة جديدة، وإلا فانها ستواجه ثورة احتجاجات عارمة كما يلوّح بعض الناشطين التونسيين، لكن بالمقابل، تعاني أغلب الأحزاب الإسلامية خلخلة في إرساء بنية اقتصادية رصينة، وحزب النهضة، الذي تفوّق في الانتخابات الاخيرة والذي كان محظورا عن ممارسة أيّ عمل سياسي داخل تونس، يقع في هذا المضمار، ومن الممكن أن يؤدي دوراً عكسياً.أما في مصر، فالأمر يختلف، إذ ما تزال بعض رموز نظام مبارك تشغل الكثير من الرأي العام المصري، وما تزال محاولات إلهاء الشعب عن الحقوق التي قدّم التضحيات من أجلها بمسألةِ محاكمةِ مبارك ورموز حكمه، ناهيك عن أن معظم الأحزاب المصريّة لا تمتلك رؤية اقتصاديّة ناجعة تتمكن من عزل القطط السمان المتمثلين برجال الأعمال الذين اعتمد عليهم نظام مبارك فيما مضى، والأخوان المسلمين الذين يلعبون على الوتر العاطفي، تبدو أجندتهم الاقتصادية خالية من تطوّر يطرأ على منظومة الدولة، الأمر الذي يهدّد الشَّعب المصري بموجات جديدة من البطالة، وتراجعاً مضافاً في الاقتصاد عمّا كان عليه، خاصة بعد تهريب الكثير من رؤوس الأموال خارج مصر إثر الفوضى السياسية التي تشهدها مصر الآن.سورية التي بدأت تتهالك، وبدأ الأوكسجين ينفذ من رئة اقتصادها، لاسيما بعد ما أدخلته السلطة السورية في دهاليز ضيّقة، عبر اعتمادها على الشراكات التي تبيّن فيما بعد بأنها تفيد جانباً واحداً من طرفي المعادلة في الشراكة، إذ اعتمدت سورية على تركيا في السنوات الماضية، حتى جعلت من نفسها حضيرة لحديقة الاقتصاد التركيّة، وكذلك لإيران التي غزت دمشق اقتصادياً، وبدأت رويداً رويداً تسحب يدها لتضعها على المشاريع العراقيّة الأكثر جدوى. ناهيك عن أن دمشق قطعت تعاملاتها مع أوربا ومعظم دول الجوار، وانفلات أمنها من جانب آخر سبّب لها عَوَقاً في سير الاقتصاد لتراه يعرج الآن إلى العراق في خطوة قد تكون الاخيرة للانقاذ خلال فترتها العصيبة هذه؛ أمّا على المنظور البعيد، وببقاء النظام أو رحيله، ستسبّب الأزمة التي مرّت بها دمشق مرضاً عضالاً في الاقتصاد قد يكون شفاؤه صعباً.ليبيا التي أقرَّ مجلسها الانتقالي بأنه سعيتمد التشريع الإسلامي نظاماً لبلاده، والتي يُفيد خبراؤها الاقتصاديون بأنها استنفدت ما يقارب ثلثي خزينها النفطي وعليها إيجاد بديل اقتصادي عاجل كما صرّح محمود جبريل، تبدو في دوامةِ أزمةٍ حقيقةٍ خاصّة وأنّها بحاجة ماسّة لإعادة بناها التحتيّة التي دمّرها حلف الناتو، وسد الفراغ الذي خلّفه نظام القذافي في ظلّ تراجع الإنتاج من جهة، ومن جهة أُخرى في خلق مؤسسات بديلة.ويبدو المجلس الانتقالي مشغولا في الأمور العسكرية أكثر من انشغاله بترميم الخراب الاقتصادي، ما يعطي دليلاً على أنّها ستشهد أزمات اقتصادية كبيرة في الفترات القريبة القادمة.