تتيح القراءة الفاحصة لكتاب «الاستعارة في الرواية مقاربة في الأنساق والوظائف روايات أحلام مستغانمي نموذجا» أن يمسك المتلقي بجوهر الدعوة التي تضمنها الكتاب، القائمة على ضرورة إيجاد منهج تحليلي يهدف إلى قراءة الاستعارة في المتون الروائيّة بعد قرون من التحليل الجزئي للاستعارات الشعريّة، التي لم يكن الوقوف عندها يتجاوز العبور نحو الخطاب.
والكتاب من تأليف عبد الرحيم وهابي، من جامعة فاس المغربيّة كان قد صدر عن دار (كتارا) للنشر في قطر 2019، ويقع في تقديم وفصلين وخاتمة ، فضلا عن المصادر والمراجع، وإذا كان التقديم قد بُني على مراجعة تأريخ الاستعارة، وبينيّة التعامل معها غربيّا خلال العقود الأخيرة، من خلال ظهور النظريّة التفاعليّة التي فتحت باب الدخول إلى الرواية، وندرة الدراسات العربية التي حاولت الوقوف عند المكون الاستعاري في الخطاب السردي، فإن الفصل الأول كان بمنزلة التمهيد الذي قرأ علاقة (الاستعارة والسرد) من النظريّة الإبداليّة إلى النظريّة المعرفيّة، حين انفتح على رؤية تنظيريّة بجملة عناوين فرعيّة لعلّ من أهمها: الاستعارة والسرد في شعريّة أرسطو، فضلا عن مبحث آخر تمحور في حدود الاستعارة في البلاغة العربية من الإبدال إلى البناء على الصور، ليقف عن ظاهرة عزوف البلاغيين العرب عن معاينة النثر بلاغيا، وقد اختار المؤلّف أن يقف عند ابن وهب الكاتب (335هـ) وهي وقفة تستحق الثناء، فهذا البلاغي كان قد أدرك أهميّة التفصيل في أنواع الأدب العربي، انطلاقا من الخصائص الجمالية، التي تحلّى بها كلّ نوع؛ ولهذا أسهب في التفريق بين نوع وآخر، استنادا إلى معرفته الخاصة، ففضّل الحديث عن تداخل الشعر بالنثر، وهو ما يسمى اليوم بالتداخل الأجناسي، حين لاحظ تداخل الشعر مع الخطابة، والرسائل، بمعنى أنه لاحظ لغة الشعر وهي تدخل في بناء الخطب، والرسائل ليكون التداخل نوعا من التمازج بين لونين من الكتابة الإبداعيّة، التي تبيح وجود الشعر في النثر، بوصف الإباحة تنظيما شفيفا لأعلى درجات صوغ الخطاب المنطلق من الذات المقرون بتخيّل هدفه تشكيل النصّ تشكيلا مغايرا، يراعى فيه ابتكار لغة تتساوق وجمال الشعور النفسي، ولكنه على الرغم من تلك الفطنة قال بأوصاف بلاغة الشعر التي تستعمل في الخطابة، والترسل، فضيّع فرصة تأريخية كان مؤهلا من خلالها للكشف عن بلاغة النثر.
وكان الفصل نفسه قد وقف عند ظاهرة البناء على الصور، من خلال منجز عبد القاهر الجرجاني (471هـ)، ثم عاود الحنين إلى (النقد الغربي) وهو يقرأ انحطاط البلاغة، وأفول الوظيفة السردية عند نقاد معروفين، ليقف عند تودوروف، وهو يستجلي الاستعارة في الرواية، ليكون ذلك الاستجلاء مقدمة مائزة لحديث أخذ أبعادا أخرى، وهو يربط الاستعارة بالسرد، ثم قُدّر للمؤلف أن يقف عند جهود أ. أ رتشردز، ومارك جونسون، وجورج لايكوف، ليرى بقوة أنّ الرواية لا يمكن أن تستجلى خصائصها خارج نظرية الاستعارة، وهذا ما قاده إلى التصريح بضرورة تحليل الاستعارة تصويريا، من خلال النصّ الروائي، وهو تحليل سيقود حتما إلى ربط الاستعارات بالتصورات، وليس بالكلمات، وهو ما ظهر له من خلال مبحث الاستعارة في الدراسات الغربية الحديثة للرواية، التي وجد فيها أن الاستعارة سردٌ مصغر.
استعارية: اللون: وهي استعارة تصويرية أخرى تهدف إلى دمج الألوان في صلب تصورات الشخصيات، للتعبير عن أحاسيسها المتناقضة، فالأبيض خدّاع مثلا، والأسود حاجز، وغيرهما يخضع لسيمياء الروائيّة.
أمّا الفصل الثاني (الأخير) من الكتاب فقد حمل عنوان «الأنساق الاستعارية ووظائفها في روايات أحلام مستغانمي»، أي أنّه كان فصلا إجرائيا، حاول المؤلّف فيه أن يختبر تطبيقاته الاستعارية على ثلاث من روايات لأحلام مستغانمي: «ذاكرة الجسد» و»فوضى الحواس» و»عابر سرير»، وقد اهتدى إلى أنّ عناوينها تستجيب للتحليل الاستعاري، بما تملك من آليات مشابهة تدخل في الادعاء الذي يوصل إلى تجاوز وضع الكلمة الواحدة إلى شكل النص، وهذا ما وجده في روايات مستغانمي التي تتجلّى في سياقاتها الاستعارات التصويرية، وهي تُرتبط بالأفكار والتصورات، والمؤلّف يدرك من زاوية منهجية، أنّ الكتاب لن يقف عند الاستعارات كلّها، فهذا باب يحتاج إلى عمل موسوعي بلا شك؛ ولهذا وقف راصدا الاستعارات التي لها القدرة على التعبير عن نسقيّة الرواية، وأهداف كتابه، وقد وجد ضالته في سبع استعارات فرضت هيمنتها وألقت ظلالها على عناصر السرد في الروايات وهي:
*استعارة: الذاكرة وعاء: وهي من الاستعارات التصويرية التي تتحكم في فهمنا للّغة، فقد دأب الناس – والكلام للمؤلّف- على عدّ الأفكار، أو المعاني أشياء، والتعبيرات أوعية، بمعنى أكبر عدّ اللغة وعاء للتفكير، ومن هنا استعارت مستغانمي الوعاء للذاكرة، بمعنى أنّ السرد يعني الذاكرة بحسب بول ريكور، وهكذا تصبح الذاكرة عند الروائيّة وعاء للماضي، فهيمنت استعارة الذاكرة في رواياتها لتصبح مستودعا لعناصر السرد مؤطرة باستعارات تصويريّة، هي استعارات الذاكرة وعاء.
*استعارة: الحب رحلة: وهي استعارة تصويريّة أخرى تحيل إلى أنّ الحياة رحلة هادفة، وهذا ما وجده المؤلف في حبكات مستغانمي الروائية، وتنوع وسائل الارتحال عندها: القطارات بأنواعها؛ للتعبير عن العناء في الترحل البطيء، وحين تختار القطار السريع فالاختيار يحيل إلى وصف دهس الأحلام.
*استعارة: الحب نار: وهي استعارة تعبّر عن الانفعالات الحادة بالإحالة إلى الألفاظ الحراريّة، أو الساخنة التي تتمّ استعارتها للإشارة إلى العواطف، والأهواء لتؤدي وظائف في سردية في الأنساق الروائية، وهي تستمد ثيماتها من عالم الفيزياء أو الكيمياء، أو الجيولوجيا.
*الاستعارة: الاتجاهيّة: وهي الاستعارة التي تتصل بالفضاء المكاني: أمام، وراء، فوق، تحت، وهي ترتبط بالحبكة الروائية، وتذبذبات الشخصيات لتقدّم للمتلقي سردا تؤدي الاستعارات فيه أثرا في ترتيب الأنساق، والتوغل في مسارات السرد.
*استعارة: الحوار حرب: وهي استعارة تقانية تمكنت من خلالها مستغانمي من إبراز طبيعة الصراع بين أبطال الروايات التي تشوبها دائما التحولات والنزالات.
*استعارية: اللون: وهي استعارة تصويرية أخرى تهدف إلى دمج الألوان في صلب تصورات الشخصيات، للتعبير عن أحاسيسها المتناقضة، فالأبيض خدّاع مثلا، والأسود حاجز، وغيرهما يخضع لسيمياء الروائيّة.
*استعارة: الحالات أمكنة: وهي استعارة الحالات النفسية، بوصفها أمكنة محصورة في الفضاء، ولاسيما الزمني الذي يغدو محركا للذاكرة ومحددا لمنعطفاتها.
اختتم الكتاب بخاتمة حاولت أن تبرّز النتائج، من خلال إجراءاته التطبيقية، وقد وفّق المؤلف فيها، حين جعلها موجزة دالّة على ما توصّل إليه الكتاب.
وإذ أنهي مقالتي أتمنى على المؤلف الكريم إن عاود طبع الكتاب ثانية أن يخصّص فصلا للجهود العربيّة التي قاربت الرواية من الاستعارة، وفي ظنّي أن ثمّة جهــــود قد كتبت في هذا الحقل منها: رسالة ماجستير عنوانها (الاستعارة الروائيّة: دراسة في بلاغة السرد، مذكرة (وسيمة مزداوت) جامعة الحاج لخضر: باتنة: الـجزائر 2012 بإشراف أ. عبد اللـــه العشـــي، وهناك مقالة فاضل التميمي (رواية اســـم العربة أو الرجل الذي تحاور مع النار، والتمثيل الاستعاري لواقعــــة محمد البوعزيزي) المنشورة في جريدة «القدس العربي» 22 إبريل/نيسان 2014، وغيرهما.