قد يجوز لنا الافتراض انه قد صار معلوما لدى المتلقي النابه، وحتى الأقل نباهه، ان مانواصل التركيز عليه هو مفهوم بديل، بالمعنى الانقلابي المفهومي والمنهجي في النظر الى المجتمعية كظاهرة، كما الى الدولة والكيانية، ومرة أخرى وبالتكرار، مايزال وسيبقى الهدف هو إزالة المفاهيم الأحادية المجتمعية من الاذهان، او إيقاف تكريسها كمطلق وحيد يهمن على العقل وعلاقته بالظاهرة المجتمعية واشكال تجليها، وتجلي الدولة فيها بالذات، واتخاذها كبداهه ملازمه للمجتمعية، مع انها ليست كذلك، ولم تكن ابتداء اذا اخذنا تجربة ارض مابين النهرين التاسيسية، والاصل المجتمعي التاريخي، حيث لم تقم ولاقامت “الدولة” بمعناها الأحادي، حتى وهي أحادية افتراضا، اذ ان هذه تقوم يوم قيامها “منتقصة”، ونوعها الامبراطوري ليس من نوع او بنية وتكوين أي تشكل امبراطوري اخر قد يغري بالمشابهة بها، فالامبراطوريات الاكدية والبابلية والعباسية، لاتشبه الفارسية او الرومانية، او الشرقية الصينية، او غيرها من الاسيوية، لاتكوينا ولابنية.
ذلك ان الرافدينية ليست امبراطورية “تغلب”، اذا جربنا تطبيق المفهوم الخلدوني على أنظمة العصبية والقبلية، وهي تكوينيا وبناء بالاصل، لاتتاسس بالفتح والتغلب على غيرها من الامبراطوريات (1) بل بالاستفادة من عاملين، هما بمثابة شرطين: الأول كما سبق ونوهنا هو “الاسبقية”، أي القدم الأسبق على تبلور الكيانات المجتمعية الأخرى الشرقية والغربية، ثم العامل الثاني الذي تتوفر أسبابه من لدن قوة أخرى ملحقة، تقوم بمهمه التمهيد ب “الفتح” كما فعلت الجزيرة العربية في القرن السابع، مهيئة الأرضية في الأفق الممتد وصولا الى الصين والهند، والى اوربا غربا.
وكل هذه الظواهر ومايتصل بها موصولة بحضور قانون تفاعلي مجتمعي تاريخي ” ديالكتيكي”مميز لحركة المجتمعية ومساراتها، ووجهتها التي تقصدها، ومحكومة ببلوغها كهدف، كامن في توزعات المجتمعية ومختلف صنوفها، سواء في المنطقة القريبه الشرق متوسطية، أي في عالم الاحتشاد النمطي المجتمعي، او في مايجاورها، ويحيط بها، ويقاربها، ونوع تشكله وبنيته، واشكال تجليه الكياني، بما يؤمن للازدواج المجتمعي لمجتمعيات ارض مابين النهرين، أسباب الديمومة والحضور، واستقامة تاريخ الدورات والانقطاعات، (2) ان كون المجتمعات سائرة “حتما” وبناء لفعل ” قانون” مجتمعي الى اللامجتمععية، بناء لتمخضات بؤرة مجتمعية تحولية بذاتها، كان لابد وحتما ان يضع هذه ضمن اشتراطات فعالية كوكبيه، ابتداء ووسطا وفي الأفق الابعد والمنتهى المقرر.
لم يكن ” الفتح” من اختصاص الإمبراطورية الازدواجية المابين نهرينيه ، وكمثال يذكر فان القرن الثالث قد عرف ظهور نبي في العراق الأسفل بين “بابل” و “ميسان”، هو النبي ماني، الذي بلغت أفكاره ورؤاه معظم ارجاء العالم وصولا الى الصين واوربا، عدا فارس التي قتلته، وبلدان الشرق الممتدة بعدها، وهو نبي قال ب “الختام النبوي”، كما كانت صلواته اقرب للمحمدية : “اربع” واعتمد مبدا تقشفيا صارما، ويعرف في الفكر البشري بثنائيتة، النور/ الظلام، لكن النبي المذكور لم يتمكن من تشكيل “امه /عقيدة” (3)برغم ثقل الحضور الفارسي، على المكان الذي ظهر فيه، ولاهو استطاع ان يكون فاتحا، مع انه بالمقارنه بالجزيرة العربية، كان المفترض ان يكون ابن محيط ومجال اجتماع “ارقى” بحكم مفاهيم الرقي الأحادية، الامر الذي تيسر للنبي محمد وكانه يمثل سيناريو معد سلفا، الامر الذي لم يحدث مثيله او مايشبهه في التاريخ.
ولا يجب الاعتقاد باية حال، بان ظواهر التصير التاريخي الازدواجي، هينه وقريبه على الادراك، والا لجرى كشف اللثام عنها قبل اليوم، ومن نماذج مثل هذا الاستعصاء مثلا حالة تعدد وجوه العودة والتشكل الازدواجي التي رافقت النمط مدار البحث عبر دورات تاريخه الثلاث، فالغياب الأول للكيانية الإمبراطورية الازدواجية في القرن السادس قبل الميلاد، مع سقوط بابل، وحلول طور الانقطاع الأول الاطور من بين انقطاعين، ماكان ممكنا ولا واردا الخروج منه، واسئناف العملية المجتمعية الازدواجية في دورة ثانية “ذاتيا”، وماكان مثل ذلك الاستئناف الثاني ليحدث من دون حضور الخلفية الاحترابية الجزيرية، مايجعل من هذه عمليا كيانية لادولة أحادية احترابية، ملحقة بالكيانية الازدواجية، ومتصلة بممكنات استمرارها وادائها المطلوب منها، وصولا الى تهيئة أسباب المساهمة في، وتحريك مسببات الثورة البرجوازية الصناعية على الطرف الاخر من المتوسط، حيث مجتمعية الانشطار الطبقي، ومايترتب عليها وينجم عنها من أسباب انقلابيه مادية ومفهومية، لازمة وضرورية ضرورة لاغنى عنها لاجل الانتقال النهائي الى اللامجتمعية ومابعدها.
فالدورة او التجلي السومري الاكدي الأول، ومن ثم البابلي/ الابراهيمي، فرض عليه ان يبقى محصورا ضمن نطاق مجتمعي وجغرافي، بالكاد يشمل عراق السواد الى بابل وجنوبها كاقصى حد، مع تصور ضعف الحضور شرقي ارض السواد لجهة فارس، وهو مجال محدود على استثنائيته غير العادية الخارقة منجزا مجتمعيا وحياتيا/ “حضاريا”، بما يضاهي علوا منجز الجزيرة في الجانب الاحترابي الوحيد في موضعه، كما يتفوق على منجز وادي النبيل على ضخامته وسعة امتداده الجغرافي، الذي لاتصح مقارنته من أي وجه كان بمساحة جنوب عراق السواد، وليس السواد كله حتى.
وهنا بالذات تكمن احدى التوهمات الكبرى المسقطة من العقل الأحادي على البنية الازدواجية، الامر الذي اصر وظل يصر الجميع من الدارسين والمتعرضين لتاريخ مايعرف ب” الحضارات” التاسيسية النهرية، الشرق متوسطية”، الذي يظل يتجلى في اطلاق تسمية “العراق” على الحضارة مابين النهرينية، حتى يوحوا بان مايتحدثون عنه هو “العراق” الحالي، وليذهبوا فيقارنوه فورا وبلا توقف استدراكي واجب، او يضاهوه بمصر وامتدادها الضخم، وما سبق ابدا، وعلى الاطلاق ان خطر على بال احد، بان مايتحدث عنه من المنجز السومري الاكدي البابلي الابراهيمي التاسيسي الجبار، هو منجز منطقة تقل مساحتها عن مائة الف كيلومتر، ان لم تصل الى نصف هذا التقدير المبالغ في حال اسقاط المجال الغربي الصحراوي والى حد ما الشرقي( مايساوي مساحة محافظتين او ثلاثة من محافظات العراق ال18 الحاليه)، الامر الذي من شانه ان يغير كليا قاعدة النظر لهذا الموضع، او المجال البشري المجتمعي، وكل ماقد حققه وتركه للبشرية من انجاز مافوق استثنائي على الصعد كافة، اذا ما جرى القياس مع اعتبار مساحته، وعدد الذين عاشوا فوق ارضه.
يمكن “للاعتباط” باسم “العلم” بما يسقط عنه أي صفه نابعة من العلم، ان يرسخ مفاهيم سائرة تظل تعامل على انها “حقائق”(4)، بينما يتراكم نمط من النظر والمعالجة الاجحافية التي تعترف اجاريا، وفقط حين لاتستطيع اطلاقا ان لاتفعل، بمنجزات من نوع “السبق في اكتشاف الكتابه”، من دون ان ينظر للمكان مدار البحث يوم يعالج، بما يستحقة من صفة وعنوان “البداية المجتمعية الاستثناء”، او “البداية المجتمعية الخارقة للعادة”، بدل التزوير الايحائي الذي يصر تكرارا ومثل القاعدة، على مضاهات موضعين غير متعادلين اطلاقا، وكانهما صنوين وشبيهين، فقط لتقاربهما الزمني والمكاني، ولان النمط المصري اقرب وادنى بنية تاسيسية وتكوينا الى الأحادية الغربية، بتجليها المعتاد العام والمتوقع.
يتشكل العراق صعدا من الأسفل ليس لمرة واحدة، بل عبر ثلاث دورات تاريخيه، الأولى تظل محصورة في جزء من القسم الأسفل الى الجنوب، ولاتتعداه، والثاني يمتد صعدا الى وسطه، والثالثة الراهنه تشمله كاملا، ضمن اشتراطات انتهاء التحقق الكياني على مستوى المعمورة، بما يجعل منه بؤرة للانتهاء الزماني المجتمعي، وبدءالانتقال البشري الى مابعد المجتمعية، والى الكيانية الكونية، كانها عودة واستئناف لبدء اخر، كان مضمرا في التكوين والبنية المابين النهرينيه التحولية الأساس.
وفي حين تبدا الدورة الأولى وتتشكل” ذاتيا”، من حيث الاليات ومادة التشكل، فانها تنشأ في الدورة الثانية من خارج الذاتيه، وبقوة فعل “الاحتياط الطبيعي الجزيري” لتعود المادة والاليات الذاتيه تعمل من جديد في الدورة الثالثة الراهنه، أولا لانتفاء الحضور الفعال للامبراطوريات الشرقية والغربيه، وثانيا للفارق الضخم في درجة التوضع والامتداد البشري السكاني، وهو ماتحقق في الدورة الثانية مع وصول نفوس العراق لثلاثين مليون نسمه، بالمقارنة بحالة بابل وسومر، وضعفهما السكاني /الالي، الذي ماكان بالإمكان ان يستعيد حضوره من دون إزاحة وطاة الاحتلال الفارسي بطبيعته العبودية الاقطاعية، من خارج الكيان، بالتحرير الجزيري الاحترابي، والسكاني التوطني، الامر الذي هيا سكانيا في الدورة الحالية، وبعد الانقطاع الثاني منذ سقوط بغداد في 1258 أسباب العودة الذاتيه للتشكل، فظهرت امارة الاستبدال في ” المنتفك “/ سومر، في القرن السادس عشر.
ـ يتبع ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لايجب ان يذهب بنا الاعتقاد ان ذكر ابن خلدون يتضمن أي نوع من الاعتراف بعمل نظريته في الحالة الرافدينيه المغايره كليا لما اعتمدة واستند اليه نموذجا ومادة وديناميات.
كذلك يجب اخراج حالة الإمبراطورية الاشوريه من العالم الرافديني الازدواجي باعتبارها” امبراطورية النهر الواحد” الأحادية غير المشمولة او الخاضعه لمفاعيل قانون الازدواج والمفعمه بالخاصيات الأحادية.
(2) قد يكون هنالك مايستوجب القول بقانون او “ديالكتيك التشكل الكياني الرافديني عبر الدورات والانقطاعات” بعكس الحالة المصرية التي تتشكل لمرة واحدة فقط لتظل في حالة اجترار وتكرار لذاتها.
(3) قد يكون السبب الذي حال دون تشكل المانوية في امة، كون “ماني” قد حرم الزواج والجنس واكل اللحوم، وتناول المشروبات، وكونها ديانه اقرب للفلسفية منها الى الاعتقادية الشعبوية.
(4) من اغرب الظواهر التي تلاحظ على من يعتبرون مختصين في تاريخ الحضارات القديمه، انهم لم ينتبهو او “يكتشفوا”، او حتى يقاربوا، ظاهرة “التشكل العراقي الصعودي” عبر الدورات، في الدورة الاولى مابين بين “لكش” وختاما ب “بابل” وفي الثانية بوصولها الى “بغداد”، الى الدورة الراهنة، ومامنتظر منهامن افق تشكلي مافوق “وطني” لم يستكمل بعد.
قاعدة التشكل المنوه عنها، تأخذ عند الانقطاع اشكالا منتقصة اقرب للغياب، فبابل محيت ودرست، هي وسومر، مخلفة مقبرة مدنممتدة الى الخليج، وبغداد صارت عاصمة للامبراطوريات البرانية، تتناوب على الحلول فيها، بعد ان افقدت صفتها ودورها كعاصمة للدورة الثانية الإمبراطورية الازدواجية.