الاحتجاج الجمعي
تحليل سيكولوجي في ثقافة التظاهرات
أ.د.قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
انشغل علماء النفس والاجتماع السياسي في تحليل اسباب وغايات ظاهرة الاحتجاج الجمعي وصنفوها الى نوعين:تمرّد غوغائي لمحرومين يقعون في اسفل الهرم الاقتصادي للمجتمع،واحتجاج سياسي لأفراد من طبقات وفئات اجتماعية متنوعة تشعر بالمظلومية وعدم العدالة الاجتماعية.وكان (لوبون) من اوائل الذين درسوا هذا السلوك في كتابه (الجموع..دراسة في العقل الشعبي)..توصل فيه الى ان الانسان الفرد قد يكون مثقفا ومتحضرا ولكنه وسط الجموع يصبح بربريا،واستنتج ان سلوك الجمع هو (استجابة لاعقلانية لأغراءات الموقف الذي تجد الجماعة نفسها فيه).بمعنى ان تصرّف الافراد في الجموع يكون مختلفا عن تصرفهم حين يكونون لوحدهم..وصنفت هذه الجموع بوصفها (رعاع او حثالة )،فيما انشغل من جاء بعده من العلماء بدراسة سلوك الاحتجاج السياسي بعد تزايدها في الصين ودول اخرى في ستينيات القرن الماضي،وتوصلوا الى ان السبب الرئيس لقيام الناس بالاحتجاج السياسي ناجم عن الشعور بالحيف والحرمان والمظلومية وهدر لكرامة الانسان والآحساس باللامعنى والاغتراب،والشعور باليأس من اصلاح حال كانوا قد طالبوا بتغييره نحو الأفضل وما استجابت الجهة المسؤولة لمطالبهم..كما حصل في العراق الديمقراطي حيث دخل المتظاهرون عامهم الخامس..ولا حياة لمن تنادي.
والمشكلة في هذه الظاهرة ان ثقافتنا توجهنا الى ان نتعامل مع احتجاج جماعة او جماعات،بعواطفنا ونصدر على هذا السلوك احكاما انفعالية سلبية او ايجابية،مع انه يتطلب تحليلا علميا وسيكولوجيا لأسبابه ونتائجه.
يعني الاحتجاج بمصطلحات علم النفس والاجتماع السياسي..شكوى او اعتراضا او اظهارا لعدم قبول شخص او مؤسسة مارست سلوكا سبب حرمانا او شعورا بحيف او ظلم.وهذا التصريح بالاعتراض او الامتعاض او عدم الموافقة يصدر اما عن شخص او جماعة او منظمة او حشد كبير..تعبيرا عن الشعور بالاستياء،وبهدف رفع الظلم عن القائم او القائمين بالاحتجاج.
ويفسّر سلوك الاحتجاج بوصفه ناجم عن مظالم اجتماعية وعدم عدالة اقتصادية أدت الى قهر وضغوط نفسية تجاوزت حدود القدرة على تحمّلها،وانه يحدث نتيجة لتوافر الفرص السياسية. فالعراقيون لم يمارسوا الاحتجاج زمن النظام الدكتاتوري،لأنه كان يعتبر من يحتج عليه تحديا له حتى لو كان المحتج قد لحق به ظلم بالغ.ولك ان تتذكر ان الذي يقتله النظام ويكتشف فيما بعد ان القتيل كان بريئا..يأتي لعائلته من يمثل الحزب ليقدم اعتذاره مع (تعويض) مادي بخس،وان الذي يقتله ويثبت انه (مجرم) بمفهوم النظام..تؤخذ من عائلته ثمن الرصاصات التي صوبت الى صدره.
وبسبب ذلك ايضا،وما حدث من نهب لممتلكات الدولة في نيسان 2003،شاب سلوك العراقيين في الاحتجاج شغب وانتهاكات جرى له تشذيب وتهذيب في تظاهرات 2015 في بغداد ومحافظات العراق الوسطى والجنوبية.لكننا لم نصل بعد الى ثقافة تجعلنا نفهم أن الاحتجاج السياسي سلوك مشروع يخص ثلاثة اطراف (المتظاهرون والسلطة والقوى الأمنية) عليها ان تتعامل معه باسلوب حضاري وثقافة جديدة.
ففيما يخص المتظاهرين فان عليهم ان يدركوا ان سيكولجيا الاحتجاج اثناء التظاهرة تزيد الانفعال بعلاقة طردية مع حجم المحتجين يؤدي احيانا الى فقدان بعض المتظاهرين حماسهم المشروع وانفلات السلوك وبذاءة الألفاظ واستفزاز المسؤول عن حفظ النظام الذي يفسّر حتى الاشارة غير المقصودة بأنها اهانة مقصودة.
وفيما يخص السلطة فانه بالرغم من انها استوعبت الدرس من واقعة ارسالها أحد (مناضليها) ليعطي الاوامر من على سطح العمارة المطلة على ساحة التحرير بقمع المتظاهرين في شباط 2011 ، فانه ينبغي عليها ان تأخذ مطالب المحتجين مأخذ الجد وتكون صريحة معهم بتنفيذ ما يمكن تنفيذه واقناعهم بما لا يمكن تحقيقه..وان تتجنب الأهمال والتسويف والمماطلة وعدم الاكتراث بمطالبهم،لأن في ذلك استخفافا بهم وعدم احترام لكرامتهم..يؤدي بالنتيجة الى تصعيد يلحق الضرر بالطرفين.
اما الطرف الثالث فهو القوى الأمنية.فالملاحظ انها ما تزال تحمل فهما خاطئا لمهمتها.فتاريخها في العراق علّمها ان تكون ملتزمة بثقافة انها اداة بيد السلطة، وأنها(مأمورة) حتى لو كانت تلك السلطة مستبدة،ولم تفهم بعد ان الاحتجاج ليس تمرّدا على السلطة،ولا يهدف الى اسقاطها او النيل منها،وأنه سلوك يحصل حتى في المجتمعات الاوربية المتحضرة،وانه ينبغي ان تتحول ثقافتها في الزمن الديمقراطي الى حماية المحتجين والحفاظ على سلامتهم ورصد المندسين والمجرمين الذين يستغلون المناسبة لنهب ممتلكات المواطنين ومؤسسات الدولة.
وللأسف فان القوى الأمنية ما تزال ملتزمة بثقافة الأنظمة المستبدة.ومع انه لا يراد منها ان تتضامن مع محتجين في فعل سلمي يتظاهرون من اجل احقاق حق يخص شعبا ووطنا..فان ما قامت به من تصرفات آخرها في (17 و 20 تشرين الثاني 2015) بالاعتداء على المتظاهرين بالضرب والكلام البذيء واعتقال اكثر من 25 منهم ما اساءوا الى احد،والطلب منهم التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في التظاهرات..يؤشر انها والسلطة ايضا لم تتخلصا بعد من ثقافة الاستبداد بخصوص سلوك الاحتجاج السياسي..وان عليهما ان يستبدلاها بثقافة الزمن الديمقراطي سيما وان تعامل القوى الامنية مع المحتجين يعد مؤشرا محليا ودوليا على ديمقراطية النظام وسلوك حكومته.
وتبقى مسألة غاية في الأهمية لا يدركها كثيرون،هي ان سلوك الاحتجاج يؤدي الى توعية الناس بثقافة جديدة توحّدهم في التعامل ضد الظلم،وتدفعهم الى ايجاد معنى لوجودهم في الحياة،وتشيع فيهم وفي السلطة والقوى الأمنية والعراقيين عموما ثقافة ان سلوك الاحتجاج الجمعي ظاهرة ايجابية تؤدي الى التغيير الاجتماعي وتعيد احياء قيم اخلاقية وانسانية ودينية..تفضي في النهاية الى اشاعة السلام في الوطن والمحبة بين الناس.