تضرب سياسة الاختراق التركي للاتحاد الأوروبي من خلال مروحة الشبكات متنوعة الانتماء والبيئات، عصافير كثيرة بحجر واحد. إذ تلعب هذه الشبكات دورًا مركزيًا في السيطرة على الجاليات التركية وتحويلها إلى قواعد اجتماعية للنظام السياسي في أنقرة، واستعمالها في حشد التأييد لنظام الرئيس اردوغان وحزبه داخل الشتات التركي، خلال هذه المحطات الانتخابية التي حسب تحليل لرئيس وزراء مصر الأسبق أحمد نظيف نشره مركز الإمارات للدراسات تحوّلت العواصم الأوروبية إلى خزان انتخابي كبير يسهم في تصعيد نواب ضمن الأغلبية الحاكمة.
كما أن تمثل الشبكات الاقتصادية التقليدية لطبقة البرجوازية الأناضولية في المانيا وفرنسا مصدر مهم من مصادر تمويل الحزب الحاكم في تركيا. وأحد مصادر الاستثمار الخارجي للدولة التركية، إذ تجاوزت الشركات التي أسّسها أشخاص من أصل تركي في المانيا وحدها مائة ألف إلى حدود 2010، فيما بلغ عدد البنوك التركية في أوروبا حوالي 18 مصرفًا تُدير 106 فروع (78% منها في المانيا وحدها) وتعمل أساسًا في تحويلات رأس المال نحو تركيا وفي إنشاء الأعمال التجارية. لكن إنشاء الشبكات ورعايتها من طرف الدولة التركية ليس الهدف منها فقط خدمة الصالح الداخلي للنظام، حيث تعمل الكثير من الدول في العالم على تأطيرها جالياتها في الخارج والاستفادة منها ماليًا أو لأهداف سياسية مشروعة، لكن النموذج التركي يتعدّاها للقيام بأدوار تستهدف سياسات الدولة المضيفة. أو الدول التي تحمل جنسيتها جاليات من أصول تركية. فقد كان لافتًا المواقف والأدوار التي اتخذتها الشبكات التركية خلال الأزمة الأخيرة التي اندلعت بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي في ملفات مختلفة تتراوح بين النزاع في أرمينيا، وملف التنقيب عن الغاز في المياه القبرصية، والحرب في ليبيا، والأزمة الدبلوماسية مع فرنسا في أعقاب الهجمات الإرهابية في أكتوبر 2020. فقد شنّت هذه الشبكات حملات علاقات عامة، وحملات إلكترونية ضد سياسات الدولة التي تعمل على أرضها، مستفيدة من هامش الحريات السياسية والإعلامية الواسعة في الاتحاد الأوروبي. ومن أمثلة ذلك الحملة الواسعة التي قام بها «مجلس العدل والمساواة» ضد عدد من الصحف الفرنسية بعد نشرها لملفات صحافية ومقالات حول سياسة اردوغان. وحول الشبكات التي تخترق فرنسا منذ سنوات، إذ وصف المعهد هذه الصحف بأنها «نموذج صارخ للصحافة غير المسؤولة والعدوانية» ووصف اردوغان بأنه «نيلسون مانديلا القرن الواحد والعشرين»، وقادت الشبكات التركية هجمات إعلامية ومظاهرات عديدة ضد مشروع القانون الذي ناقشه البرلمان الفرنسي عام 2011 حول تجريم إنكار إبادة الأرمن سنة 1915. من قبل الدولة العثمانية، في حملة تعبئة غير مسبوقة انتهت بالفشل بعد المصادقة على القانون.
كما نجح الاتحاد التركي الإسلامي لمديرية الشؤون الدينية في فرنسا، والذي يقوده أحمد اوغراس أحد أعضاء حزب العدالة والتنمية في عرقلة «ميثاق المجلس الوطني للأئمة» الذي طالبت السلطات الفرنسية من مجلس الديانة الإسلامية وضعه لتنظيم عمل أئمة المساجد، ومنع التدخلات الأجنبية في تنظيم العبادات الإسلامية. وقد رفض الاتحاد التركي، باعتباره عضوًا في مجلس الديانة الإسلامية متحالفًا مع اتحاد المنظمات الإسلامية – الفرع الفرنسي لجماعة الإخوان المسلمين – في إسقاط صيغة الميثاق لتضمّنها رفضًا للتدخلات الأجنبية في تعيين الأئمة وتمويل النشاط الديني، وكذلك رفض أي نزاعات إسلامية سياسية داخل دور العبادة، وهي محظورات يمكن أن تجفّف منابع الشبكات الدينية التركية وحليفتها الإخوانية. ودأبت هذه الشبكات منذ سنوات على التصدي لأي تيارات مناهضة للسياسات التركية، وتختلف أنماط التصدي بين الضغط السياسي واستعمال العنف السياسي، وقبل ذلك سقطت في العاصمة الفرنسية ثلاث ناشطات كرديات في العام 2013، ووجّه المحقّقون الفرنسيون أصابع الاتهام إلى عناصر في أجهزة الاستخبارات التركية «إم إي تي» التي نفت تورّطها في القضية. كما كشفت تحقيقات ألمانية عن تورط المساجد التابعة للاتحاد التركي الإسلامي لمديرية الشؤون الدينية في المانيا في تتبع خصوم اردوغان والتجسس على معارضيه، سواء كانوا من الأتراك أو الألمان، وتشير بعض المصادر إلى وجود نحو 8 آلاف شخص يقوم بهذه الأعمال لصالح القنصلية التركية. وفي هذه الأجواء تحوّلت العديد من العواصم الأوروبية إلى بيئات غير مأمونة بالنسبة للكثير من المعارضين الأتراك، وخاصة من الأكراد وجماعة فتح الله غولن والجاليات الأرمنية.
لكن اردوغان، ومن خلال زرع مناخ الخوف هذا يحاول استغلال الجاليات التركية في أوروبا، خاصة في النمسا وألمانيا وفرنسا، من أجل الضغط على الدول التي يقيمون فيها، ليقدم نفسه زعيمًا ممسكًا بخيوط اللعبة، وأن بإمكانه إثارة الفوضى في تلك البلدان حين يريد، وإن ثمن ذلك سيكون صمت أوروبا على سياسته، وعليها مواجهة الغضب الذي يمكن أن يثيره في مجتمعاتها. على الرغم من الاهتمام الأكاديمي الأوروبي منذ تسعينيات القرن الماضي بشبكات الهجرة التركية، وبتوظيف السلطات التركية لهذا الشتات كبير، إلا أن الحكومات الأوروبية استفاقت بشكل متأخر نسبيًا، أمام هذا الاختراق الذي حقّقه اردوغان داخل قطاعات واسعة من مواطنيها من ذوي الأصول التركية، إذ شكّلت الحملة الانتخابية للاستفتاء الدستوري التركي في العام 2017 صدمة أوروبية؛ فقد لاحظ الجميع كيف استفاد اردوغان من خزان انتخابي هائل كان أحد أسباب نجاحه في تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي. وإزاء هذه الشبكات التركية تنوّعت السياسات الأوروبية المضادة للاختراق، إذ بدأت على الصعيد الأمني وضع العديد من المنظمات التركية تحت المراقبة وأبرزها «حركة مللي غوروش»، وفي فرنسا قررت الحكومة حلّ «حركة الذئاب الرمادية» بتهم تتعلق بإثارة الكراهية والعنف. كما اتخذت بعض الدول الأوروبية خطوة إلى الأمام في تدعيم ترسانة تشريعية تسهم في تفكيك الشبكات التركية قانونيًا. باعتبار هذه الشبكات تستفيد من ثغرات وهوامش في القوانين السائدة. ففي فرنسا طرحت الحكومة «قانون الانفصالية الإسلاموية» ومن ضمن إجراءاته الحد من التمويل الأجنبي للنشاط الديني وفرض قيود على استقدام الأئمة من الخارج. لاسيما من تركيا، وتدريب الأئمة في الداخل الأوروبي وفقًا لمناهج ترعى ظروف المسلمين في الدول الأوروبية، حيث يوجد حاليًا نحو 151 إمامًا مبتعثًا من طرف تركيا في فرنسا، و65 % من الأئمة في البلاد يتلقون رواتب من تركيا. وفي النمسا ناقشت السلطات وضع قانون يجرم «الانتماء لتنظيمات إسلاموية» وهو ما يهدّد نفوذ قطاع واسع من الشبكات التركية ذات التوجه الإسلاموي.