ــ تصدير.. من وحي الأحداث
فرض الربيع العربي ــ الذي ما زالت أحداثه جارية ــ معادلة سياسية جديدة، لم يكن أكبر المنظرين والمحللين بقادرين علي افتراضها حتي، وخصوصا أولئك الذين أقاموا استراتيجيات كاملة، علي أساس محاولة استئصال كل المظاهر الإسلامية من الحياة الفكرية والسياسية العربية، تحت مسمي (العلمانية ) و(الاشتراكية)، هذه النظريات الفكرية والسياسية، التي لم تتجاوز في الفضاء العربي/الإسلامي يوما، حيز الشعارات الجوفاء.
وتقوم هذه المعادلة علي أساس فكري وسياسي جديد/قديم، تحكمت فيه إلي أبعد الحدود، حركات الإسلام السياسي، التي ظهرت خلال المرحلة السابقة، كرد فعل علي صعود أنظمة سياسية تسلطية، وصلت إلي السلطة ــ في غالبيتها ــ عبر انقلابات عسكرية، وحاولت استغلال قيم الفكر السياسي الحديث (الديمقراطية، العلمانية…) لتبرير تحكمها في السلطة بطرق غير مشروعة.
ضمن هذا السياق التاريخي، ظهرت حركات الإسلام السياسي علي الساحة السياسية العربية، حاملة لمشروع فكري وسياسي، استمد مشروعيته، في البداية، من مناهضته للواقع السياسي والفكري، الذي فرضته الأنظمة السياسية الحاكمة، إما في علاقة بالأجندة الغربية التي خلفها الاستعمار قريب العهد بالانسحاب، وإما في علاقة بالانتماء القومي الذي تحول إلي مشروع سياسي بطابع علمانوي أو يساروي، كان يسعي إلي فصل العروبة عن الإسلام، وانتزاع الشعوب العربية من امتدادها الحضاري العميق.
وإذا كانت حركات الإسلام السياسي، قد جاءت كرد فعل علي وضع سياسي مأزوم، فإنها جاءت في نفس الوقت، للمساهمة في تحقيق استمرارية المشروع النهضوي العربي، الذي استمد رؤيته الفكرية والسياسية، من تجذره في التربة الإسلامية، سواء تعلق الأمر بالتيار السلفي أو بالتيار الليبرالي، وذلك رغم الهفوات الكبيرة التي سقطت فيها حركات الإسلام السياسي، وهي تحاول استلهام النموذج النهضوي فكريا وسياسيا. وكنتيجة لتضافر مجموع هذه العوامل، يمكن أن نتحدث، اليوم، علي إيقاع المد الثوري العربي، عن اكتساح شامل لحركات الإسلام السياسي للمجال، البداية تتأسس في تونس، التي كانت سباقة لإطلاق الثورة العربية ضد التسلط والاستبداد، وذلك مع حركة النهضة، التي يبدو أنها ستقود المشهد السياسي التونسي، أولا من خلال وضع دستور البلاد، وثانيا من خلال قيادة الحكومة. وجميع المؤشرات تؤكد أن النموذج التونسي، هو الذي سيتكرر في مصر وفي ليبيا ومستقبلا في سوريا. وتستمد حركات الإسلام السياسي قوتها، اليوم، من معطيين أساسيين:
ــ المعطي الأول، يرتبط بفعاليتها النضالية، التي ترجمتها عبر الحضور الجماهيري الكبير في (ساحات التغيير/التحرير)، وهي بذلك تستفيد من تاريخها الطويل في مواجهة الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، وتسعي إلي استثمار اللحظة الثورية، للمساهمة في إسقاط هذه الأنظمة، ليفسح أمامها المجال لتجسيد مشروعها السياسي علي أرض الواقع.
ــ المعطي الثاني، يرتبط بنجاح النموذج الإسلامي التركي، في التوفيق بين الخصوصية الإسلامية والحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولذلك فإن حركات الإسلام السياسي في العالم العربي تقدم نفسها، اليوم، كبديل محتمل للمعادلات السياسية السائدة، والتي فشلت، علي امتداد عقود من الزمن، في تشييد نموذج تنموي/حداثي عادل، تستفيد منه الدولة ويستفيد منه المجتمع. ولعل أول تجربة في تونس، لتؤكد هذا الطرح بوضوح، فجميع تصريحات قياديي حركة النهضة الإسلامية، تسير في اتجاه التوفيق بين الخصوصية الإسلامية والحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وسواء فيما يخص المعطي الأول، أو فيما يخص المعطي الثاني، فإن الربيع العربي، يكون قد نجح ــ بامتياز ــ في قلب المعادلات السياسية التي كانت سائدة لعهد قريب، والتي كان الرهان عليها كبيرا من طرف صناع القرار الغربيين، باعتبارها المعادلات الملائمة لخدمة أجندتهم في المنطقة العربية، اقتصاديا وسياسيا. لكن رياح الثورة العربية، يبدو أنها تجري بما لا تشتهيه سفن قوي الاستعمار الجديد، لأنها ستحمل إلي السلطة فاعلين سياسيين جدد، طالما حاربهم الغرب باعتبارهم يشكلون خطرا علي مصالحه الاقتصادية والسياسية، وذلك ضمن إستراتيجية متكاملة الأبعاد، تقوم علي ادعاء (محاربة الإرهاب).
1 ــ الخصوصية الحضارية في مواجهة التحديث الكولونيالي المعاق.. الإسلام السياسي صوت الجنوب
يحيل الجزء الثاني من العنوان، بداية، علي دراسة للباحث السياسي الفرنسي (فرانسوا بورغا) والتي تحمل عنوان : (L?islamisme Au Maghreb ? La Voix du sud) والتي حملت في ترجمتها العربية عنوان: (الإسلام السياسي صوت الجنوب) وهي دراسة ــ يؤكد المفكر نصر حامد أبو زيد ــ في تقديمه للترجمة العربية، رغم أنها تركز علي التجربة الإسلامية في المغرب العربي، فإن هذه التجربة تتمتع بخصائص متشابهة في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي. وتعتبر هذه الدراسة التي صدرت عن دار Karthala للنشر سنة 1988 وتوالت طبعاتها وترجماتها المتعددة فيما بعد، تعتبر أول دراسة غربية حول ظاهرة الإسلام السياسي في العالم العربي، تتمتع بدرجة من الموضوعية، قد لا تكون متاحة بنفس القدر من الوضوح للباحث العربي المسلم، سواء كان هذا الأخير متعاطفا مع الظاهرة أم كان معارضا لها. وتكمن أهمية الكتاب ــ حسب نصر حامد أبي زيد ــ في تعامله مع الظاهرة الإسلامية، باعتبارها محصلة طبيعية ناشئة عن مناهضة الاستعمار أولا، ومتطورة عن فشل الخطاب النهضوي القومي ثانيا. ولذلك فإن هذا التحليل يعطي للظاهرة، عمقها الطبيعي في بنية الخطاب العربي من جهة، وفي آليات المقاومة الاجتماعية والسياسية ثانيا.
وضمن هذا السياق التاريخي، الذي تنتمي إليه حركات الإسلام السياسي، فإن (فرانسوا بورغا) ينتهي في كتابه إلي نتيجة، في غاية الأهمية تدحض ــ عبر التحليل المنهجي ــ الأطروحة التي تروجها بعض حركات الإسلام السياسي عن نفسها، ويروجها عنها بعض المحللين والمراقبين والخصوم الإيديولوجيين ــ بتوظيف مختلف ــ هذه الأطروحة التي تربط بين الإسلام كدين، وحركات الإسلام السياسي كحركات سياسية. إن الإسلام التاريخي المدون في النصوص المقدسة ــ حسب فرانسوا بورغا ــ ليس وحده المولد لظاهرة الإسلام السياسي، بل الظاهرة متولدة عن واقع مركب ومعقد. إن اعتماد شفرة الإسلام في خطاب الإسلام السياسي، هي عملية تتم علي مستوي اللغة، لمناهضة شفرة أخري غربية استعمارية أساسا، وهي شفرة قامت الأنظمة الحاكمة بإعادة إنتاجها في خطابها القومي العلماني. وإذا كان الصراع يدور علي مستوي الشفرة ــ في مستوي الخطاب ــ لمناهضة الاستعمار الغربي من جهة، ولمناهضة القومية العلمانية التابعة له من جهة أخري، فالإسلام في هذه الحالة مجرد هوية يتسلح بها الإسلام السياسي، هوية تتجاوز العقيدة وتعلو عليها.
ولكي يوضح (فرانسوا بورغا) صراع الشفرات هذا بشكل أوضح، فهو يلجأ إلي رسم صورة موجزة عن المجال الثقافي والسياسي، الذي نشأت فيه ظاهرة الإسلام السياسي، وهو مجال ارتبط بنموذج من التحديث المعاق، الذي مارسته الأنظمة السياسية التي تقلدت الحكم بعد انسحاب الاستعمار، فقد تطور نمط من التحديث بطريقة أسرع بكثير من ذلك التحديث الذي حاول أن يفرضه المستعمر من قبل، فقامت عدة أنظمة في اليوم التالي للاستقلال ــ معتمدة علي قوتها النابعة من شرعيتها التي تستمدها من إنجازاتها في التحرير الوطني ــ بتبني مجموعة من التشريعات، زعزعت إلي حد كبير مكانة بعض المؤسسات (مثل القضاء والجامعات)، وهي مؤسسات لم يجرؤ الاستعمار نفسه علي المساس بها. وهكذا لم يتورع بورقيبة عن إنهاء اثني عشر قرنا من التقاليد الجامعية عندما أغلق جامعة الزيتونة الشهيرة، ويضيف (فرانسوا بورغا) نماذج أخري (كاريكاتورية) لهذا النموذج التحديثي المعاق والمدوخ ببخور إيديولوجيا الاغتراب، حينما يرسم صورة لأتاتورك وهو يشنق أولئك الثائرين الذين يتشبثون بالطربوش، بينما يقوم عبد الناصر بمطاردة أمثالهم من الذين يرفضون التخلص من رموز وشفرات الثقافة التقليدية، ويطلب شاه إيران قص اللحي وحرق زي الحجاب.
ويفسر (فرانسوا بورغا) إقدام الأنظمة الحاكمة علي هذه النماذج من التحديث الكاريكاتوري المعاق، برغبة الجنوب في الوصول بطريقة أسرع إلي “الوليمة التكنولوجية الكبري” ولذلك فقد ألقي بقوانينه وعاداته ولغته وأغانيه، بل وبملابسه… وأكثر من أي وقت سبق أصبحت اللغات الأجنبية، الفرنسية في المغرب العربي، والإنجليزية في المشرق العربي، السلاح الذي يضطر أن يلجأ إليه كل من يريد أن يحقق صعودا مهنيا واجتماعيا.
ولعل هذا الوضع الثقافي والسياسي العربي المستلب من قوي الاغتراب داخليا وخارجيا، هو الذي كان يمهد الطريق لظهور حركات الإسلام السياسي، التي جاءت كرد فعل طبيعي، علي العنف الرمزي الذي مارسته النخبة السياسية الحاكمة، علي فئات عريضة من المجتمع، خصوصا وأن هذه النخبة التي تولت الحكم بعد الاستقلال، لم تدرج ضمن اهتماماتها معالجة ذلك التصدع الذي أصاب الذهنية الجماعية في المجتمعات العربية وذلك عندما أصبحت الشفرات الثقافية لتلك المجتمعات تحتل مكانا هامشيا. قد عملت هذه النخبة، علي العكس من ذلك، علي تعميق الجرح أكثر، حينما عملت علي تحقيق استمرارية المشروع الاستعماري، عبر رفع شعارات التحديث، وبذلك كرست تهميش الشفرات الثقافية الخاصة بالمجتمعات العربية، وفي المقابل فرضت شفرات ثقافية بديلة، تعتبر امتدادا للفكر الغربي، الذي لبس جبة الاستعمار، حينما عمل علي اختراق البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية. هكذا ــ إذن ــ يستخلص (فرانسوا بورغا) في آخر التحليل، أن الإسلام السياسي، تعبير عن رد فعل تجاه السيطرة الثقافية الغربية، فالمد الإسلامي من الخليج إلي المحيط، وفيما أبعد من ذلك، في المناطق التي انتشر فيها التوسع الغربي، تعبير-إذن- عن إدانة لطبيعة العلاقة الثقافية التي كانت سائدة أثناء المرحلة الاستعمارية. وبذلك تصبح أرضية الإيديولوجية والشفرات والرموز، هي الإطار الذي تتم فيه محاولة إعادة التوازن في العلاقة مع “الشمال” في مرحلة ما بعد القضاء علي الاستعمار. ولكي يفصل (بورغا) في هذه الخلاصة أكثر، فهو يلجأ إلي تطبيق مقاربة استقرائية، يستنتج من خلالها، أن الدول التي تكون فيها تيار الإسلام السياسي، يجمعها قاسم مشترك، هو أنها عانت خلال القرن الماضي (يقصد القرن التاسع عشر) من مجموعة قيم فرضها الغرب أو صدرها إليها، وكانت درجة هذه المعاناة تزيد أو تقل حسب نوعية الاستعمار، فتتدرج من حالة، مثل حالة الجزائر، إلي درجات أقل حدة، نظرا لقصر المدة نسبيا، ولتواجد عدد أقل من المستعمرين(مثل المغرب الذي كان تحت نظام الحماية ). وبناء علي هذا التحليل، يؤكد (فرانسوا بورغا) بحدس علمي استشرافي عميق، قابلية الإسلام السياسي للتوازن، لأن بإمكانه أن يصل إلي استيعاب الشفرة الغربية التي يرفضها الآن، كرد فعل علي محاولة طمس الشفرة الثقافية المحلية. ولذلك فإن الإسلام السياسي ــ حسب بورغا ــ في تأسيس مشروعه الثقافي والسياسي، يحاول تحقيق التوازن للذات العربية، بعد أن نجح الاستعمار وأذنابه من الأنظمة السياسية المغتربة، في إفقاد الشعوب العربية لتوازنها الحضاري، عبر تحويل شفرتها الثقافية إلي الهامش، ومركزة شفرة ثقافية بديلة، تشوش علي الأفق الثقافي المشترك للشعوب العربية/الإسلامية. ولعل مهمة إعادة التوازن إلي الذات الثقافية العربية، هي الكفيلة ــ حسب تصور بورغا ــ بتسهيل استيعاب الشفرة الثقافية الغربية، التي يمكنها أن تسهل مهمة التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكن بأفق مغاير لما تم ترسيخه، خلال مرحلة التحديث الكاريكاتوري المعاق، بعد مرحلة الاستقلال. إن رفض حركات الإسلام السياسي للفكر الديمقراطي ?حسب فرانسوا بورغا ــ يرجع إلي الظروف التاريخية التي أدت إلي ظهوره أكثر مما يرجع إلي مضمونه، لأن المفارقة الحقيقية ــ فيما يتعلق بالمعارضة الثقافية الإسلامية ــ تكمن في أنها قد تنجح في تحقيق، ما فشل في تحقيقه العنف الاستعماري والعنف المضاد القومي، إذ أن العودة إلي استخدام ثقافة الأجداد قد تتمكن من التوصل ?بطريقة متناقضة للغاية ــ إلي المصالحة بين شفرات ورموز المجتمعات التي كانت مستعمرة، وبين المضمون الأساسي لهذه القيم الغربية، تلك القيم التي لم يستطع كل من الاستعمار والنخبة التي استوعبت ثقافته، والتي تولت الحكم بعد الاستقلال، توفير الظروف الملائمة لتوظيف هذه المفردات “الغربية” وبالتالي توفير ظروف فاعليتها.
نقلا عن جريدة الزمان