الأثر الوضعي التجريبي للوضعية المنطقية في منهجية المدرسة السلوكية.
د. محمد أبو النواعير*
المدرسة السلوكية :
نشأت المدرسة السلوكية في أوقات متأخرة من نهاية القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين، عندما حاول عدد من علماء النفس، إدخال المنهج العلمي التجريبي، على أدوات الاشتغال في علم النفس، جاء هذا المجال من الدراسة كرد فعل لعلم النفس في القرن التاسع عشر ، والذي استخدم الفحص الذاتي لأفكار الفرد ومشاعره لفحص الإنسان، معتمدا على قواعد الاستبطان الفرويدي النفسي الداخلي، دون الأخذ بنظر الاعتبار منهج التأثير البيئي على مكامن ومحركات السلوك الإنساني الظاهري، لذا جاءت المنهجية السلوكية، كنظرية علمية، تعمد إلى دراسة تغييرات السلوك الإنساني، والتي يمكن ملاحظتها وإخضاعها للقياس، مما ينتج عنها إمكانية السيطرة على ارتباطات التحفيز والاستجابة.
السلوكية هي موقف – طريقة لتصور القيود التجريبية عند دراسة الحالة النفسية التي يتبلور نتاجها سلوك ظاهري. وبالمعنى الدقيق للكلمة، تعتبر السلوكية كعقيدة – أو طريقة علمية لممارسة العلوم النفسية أو السلوكية نفسها.
من هذا المنطلق، يعتبر الدارس للعلوم السلوكية: هو الشخص الذي يطلب أدلة سلوكية لأي فرضية نفسية. بالنسبة لمثل هذا الشخص ، لا يوجد فرق واضح بين حالتين ذهنيتين كـ (المعتقدات ، الرغبات ، إلخ) ما لم يكن هناك فرق واضح في السلوك المرتبط بكل حالة. فمثلا : عندما يعتقد شخص ما بأنها تمطر، فإن هذا الإعتقاد لن يؤخذ به، إذا لم يكن هناك اختلاف في سلوكه بين الاعتقاد بأنها تمطر والاعتقاد بأنها لا تمطر ، فليس هناك سبب لإسناد هذا المعتقد على الآخر.
أصبحت السلوكية كاتجاه علمي رئيسي في علم النفس، من خلال أهميتها كنظرية قائلة بإمكان دراسة علم النفس البشري أو الحيواني بشكل موضوعي من خلال أفعال يمكن ملاحظتها وقياسها :(ظاهرة كسلوكيات).
هناك ثلاثة قواعد إشتراطية أساسية قامت عليها المدرسة السلوكية (مفاهيميا وإجرائيا) :
1- علم النفس هو علم السلوك، والمقصود هو أن علم النفس هو ليس علم العقل الداخلي – المستبطن كشيء آخر أو مختلف عن السلوك.
2- يمكن وصف السلوك وتفسيره دون الرجوع أو الإشارة النهائية إلى الأحداث العقلية أو العمليات النفسية الداخلية، فبحسب المدرسة السلوكية، فإن مصادر السلوك هي مؤثرات ومحفزات وموانع خارجية (في البيئة)، وليست داخلية (في العقل ، في الرأس).
3- في سياق تطور النظرية في علم النفس ، إذا تم ، بطريقة أو بأخرى ، نشر المصطلحات أو المفاهيم العقلية في وصف السلوك أو شرحه ، عندئذٍ إما (أ) يجب إزالة هذه المصطلحات أو المفاهيم واستبدالها بمصطلحات سلوكية أو (ب) أو أن تُترجم أو تُعاد صياغتها إلى مفاهيم سلوكية، وهذا الأمر يعتبر من أهم الأسس في هذه المدرسة.
جذور السلوكية :
ظهرت السلوكية كرد فعل على النزعة العقلية (النظرية القائلة بأن الظواهر الجسدية والنفسية لا يمكن تفسيرها في النهاية إلا من خلال المصطلحات من خلال أدوات الإبداع والعقل التفسيري.) ، وهي مقاربة ذاتية للبحث، استخدمها علماء النفس في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. في منهج التحليل العقلي المعتم في علم النفس التقليدي، تتم دراسة العقل عن طريق القياس وفحص أفكار الفرد ومشاعره، من خلال عملية تسمى الاستبطان. اعتبر السلوكيون أن الملاحظات الناتجة عن الأداتية العقلية، تتميز بكونها ذاتية للغاية ، وقادت إلى حصول الكثير من الإختلاف بين الباحثين، أدت غالبًا إلى نتائج متناقضة وغير قابلة للتكرار.
مع ان بداية ظهور المدرسة السلوكية ومنهجها العلمي الوضعي التجريبي، يمتد لفترة هي أبعد من البيان الأساسي الذي أسس لها كتسمية وكمنهج، والذي ألقاه عالم النفس الأمريكي جون واتسون، عام 1913 والتي كانت بعنوان “علم النفس باعتباره وجهة نظر السلوكية” والذي سمي على نطاق واسع باسم “البيان السلوكي”، إلا أن البداية الفعلية التي بدأت منها السلوكية كنظام دراسي ومجال أكاديمي للدراسة، قد انطلقت من هذا البيان، فبينما كان القصد من الورقة هو تقديم السلوكية كمسار لعلم النفس ليصبح علمًا طبيعيًا ، أصر واتسون أيضًا على وجوب تطبيق نتائج البيانات الرقمية، ونتائج المبادئ التجريبية الناتجة عن مثل هذا العلم الطبيعي، لحل المشكلات الإنسانية والاجتماعية.
في الكتابات اللاحقة على مدى العقد التالي ، وسع واتسون تركيزه على المشكلات الاجتماعية وعلاجاتها السلوكية ، وبلغت ذروتها في كتابه الصادر عام 1924 بعنوان “السلوكية BEHAVIORISM) ، والذي تم استقباله بحماسة، كمنهج يمكن إتباعه في مشاريع تحسين النسل، والتي انتشرت بكثرة في الولايات المتحدة خلال الربع الأول من القرن العشرين، من خلال تبني أقصى درجات التفاعل الجدلي البيئي؛ الدعوة التي أطلقها واتسون، والتي تذهب إلى دور البيئة في إمكانية التحكم بالسلوكيات الاجتماعية، لخلق مجتمع يسير نحو التطور، أثارت ارتياح أصحاب الأيديولوجيا التقدمية في ذلك الوقت ، والذي تحول بعد فترة من الزمن على يد أصحاب التحليل السلوكي إلى مشاريع للتدخل المجتمعي، من أجل تحقيق أكبر قدر من الحلول للمشاكل الإجتماعية.
نظر “البيان السلوكي” لعام 1913 لواتسون إلى علم النفس على أنه علم طبيعي بهدف التنبؤ والتحكم في السلوك ، وتقدير البيئة كمحدد للسلوك ، وإمكانية كبيرة لتحسين المجتمع من خلال تطبيق مبادئ السلوك المشتقة تجريبياً، كما أكدت نظرته المتوازنة لقضية رعاية الطبيعة على التعلم – “تكوين العادة” في بناء واطسون – كآلية رئيسية لفهم تأثير البيئة على السلوك وبالتالي تحسين التنبؤ والتحكم في السلوك. ولكن بعيدًا عن الترويج لمفهوم التعلم ، المعتمد في البحث النفسي الإجتماعي، جادل واتسون بأنه يمكن – ويجب – تطبيق المبادئ السلوكية المصدق عليها علميًا، على مجموعة واسعة من الاحتياجات والمشكلات الاجتماعية الملحة، كما يشير ربطه لهدف التنبؤ والتحكم بالتطبيق العملي للشؤون الإنسانية إلى أن سبب “تعلم الأساليب العامة والخاصة التي يمكنني من خلالها التحكم في السلوك” ، هو من أجل تعزيز التغيير الاجتماعي الذي أدى إلى تحسين المجتمع وجعل الحياة أفضل لمواطنيها.
انقسمت اتجاهات المدرسة السلوكية إلى ثلاثة أقسام أو اتجاهات :
1 – السلوكية المنهجية.
2 – السلوكية النفسية.
3 – السلوكية التحليلية.
لكل من هذه الأنواع الثلاثة أسس تاريخية، فالسلوكية التحليلية، ترجع في جذورها التاريخية إلى الحركة الفلسفية المعروفة باسم الوضعية المنطقية، والتي تقترح بأن معنى العبارات المستخدمة في العلم يجب دراستها وفهمها من خلال ظروفها التجريبية، أو الملاحظات التي يمكن التأكد من صحتها. تُعرف هذه العقيدة الوضعية باسم “إمكانية التحقق”. في علم النفس السلوكي ، يتم تأكيد وعم مثل هذا المعنى: إمكانية التحقق السلوكي التحليلي، أي الادعاء بأن المفاهيم العقلية تشير إلى الميول السلوكية وبالتالي يجب ترجمتها إلى مصطلحات سلوكية.
تؤكد السلوكية التحليلية على تجنب الموقف الميتافيزيقي المعروف باسم ثنائية المادة، وهي الثنائية القائلة بأن الحالات العقلية تحدث في مادة عقلية خاصة غير مادية (العقل غير المادي). على النقيض من ذلك ، بالنسبة للسلوكية التحليلية، فإن الاعتقاد الذي لدي عند وصولي في الوقت المحدد لموعد طب الأسنان في الساعة 2 مساءً، هو يعني بأن لدي موعدًا في الساعة 2 مساءًا، لا تعني أن العقل الغير مادي هو الذي سيحدد أطر هذا اللقاء الزمانية والمكانية والفعلية.
لذا تذهب المدرسة السلوكية إلى أبعد من ذلك، حيث تعتبر أن حالة الإيمان، هي نوع من أنواع الميول الجسدية التي لها جنبة ظاهرية فعلية يمكن قياسها؛ بالإضافة إلى ذلك ، بالنسبة لعالم السلوك التحليلي ، لا يمكننا اعتبار الاعتقاد حول وصولي إلى عيادة الطبيب بشكل مستقل عن الوصول الفعلي هو خارج إطار مجموعة الميول الظاهرية السلوكية هذه، لذا ، لا يمكن اعتبار الاعتقاد بإمكانية الوصول كسبب للوصول، فالسبب والنتيجة، وجودان متميزان من الناحية المفاهيمية، إن الاعتقاد بأن لدي موعدًا في الساعة 2 مساءً لا يختلف عن وصولي ، وبالتالي لا يمكن أن يكون هذا الاعتقاد، هو جزءًا من الأسس السببية للوصول.
النوع الثاني من أنواع السلوكية هي السلوكية النفسية، تتكون الجذور التاريخية للسلوكية النفسية ، جزئيًا ، من الرابطة الكلاسيكية للتجريبيين البريطانيين ، وفي مقدمتهم جون لوك (1632-1704) وديفيد هيوم (1711-1776). ووفقًا لمتبنيات هذه الرابطة الكلاسيكية، فإن السلوك الذكي هو نتاج التعلم البيئي، فهو نتيجة للارتباطات أو التزاوج بين الخبرات الإدراكية أو المحفزات من ناحية ، والأفكار من ناحية أخرى، يكتسب الأشخاص والحيوانات المعرفة ببيئتهم وكيفية التصرف فيها؛ وتمكّن الجنبة التجريبية للخبرات المتراكمة، من اكتشاف البنية السببية للعالم؛ الربط السببي بين الأحاث الظاهرة، هو الذي يوجد مثل هذا النوع من الذكاء في السلوك، والذي هو علامة على هذه المعرفة.
تشترك السلوكية المنهجية في أسسها التاريخية مع السلوكية التحليلية في خضوعها لتأثير الوضعية المنطقية. كان أحد الأهداف الرئيسية للوضعية هو توحيد علم النفس مع العلوم الطبيعية. كتب واطسون أن “علم النفس بصفته سلوكيًا يرى أنه فرع تجريبي موضوعي بحت من العلوم الطبيعية. هدفها النظري هو … التنبؤ والتحكم “.
الوضعية المنطقية التجريبية :
تعد الوضعية المنطقية استمرارا لمحاولة النزعة العلمية فرض هيمنتها وفرض منطق علمي محض، بأدواته ومناهجه وطرق تحليلية لبياناته وتأويلاته للمعطيات. وتميزت هذه الهيمنة بإقصاء كل ما لا يدخل في العالم التجريبي المختبري والمنطق الرياضي من حضيرة العلم، بل فرضت على كل العلوم الأخرى، وبالخصوص العلوم الإنسانية منها ، “تأشيرة” دخول، متمثلة بلبس معطف الرياضيات والمنطق، كما انها عملت على إقصاء ونفي الميتافيزيقيا جملة وتفصيلا واتهامها بعدم الجدوى وغياب المعنى فيها. وتتعمد إظهار أهمية البحث العلمي الدقيق للعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية.
فالوضعية هي زواج بين التجريبية (المعرفة المكتسبة من خلال الملاحظة و التجربة) مع نسخة من العقلانية التي تأسست في المنطق والرياضيات، ويمكن إضفاء الطابع الرسمي عليها إلى حد ما في المنطق الرمزي.
هناك أربعة محطات تأثير، ارتوت منها الوضعية المنطقية لدائرة فيينا وهي :
– تأثير الفلسفة التجريبية ونظيرتها الوضعية السابقة عليها، وخاصة عند هيوم وميل وماخ وأيضا بوانكاري.
– تأثير المنهج التجريبي كما طوره العلماء منذ منتصف القرن التاسع عشر.
– تأثير المنطق الرمزي والتحليل المنطقي للغة، كما تطورت على وجه الخصوص عند كل من فريجه ووايتهد وراسل وفيتغنشتاين.
– الاعتماد على التحليل المنطقي لمعالجة اللغة العلمية، على الرغم من أنها تحاول بناء لغة اصطناعية تتوخى تعميمها وجعلها نموذجا للغة العلم.
كان الرفض التام والقاطع، لكل شيء يتعلق بالمنهج الميتافيزيقي، هو الميزة التي اعتمدها أصحاب الوضعية المنطقية، من خلال اعتمادهم على ما يسمى “معيار المعنى”، فكل ما لا يمكن التحقق منه تجريبيا، لا يعتبر ذا قيمة وذا معنى ويجب إلحاقه بالميتافيزيقا.
النزعة الوضعية التجريبية في المدرسة السلوكية :
مثل العلوم التي تطورت قبل ذلك ، نما علم النفس إلى حد كبير من الفلسفة ، فكريا ومؤسساتيا.
الانفصال التدريجي لعلم النفس عن الفلسفة ، الذي أصبح يمثل هوة كبيرة ومفتوحة بين منهجين متناقضين، حدث في مطلع القرن العشرين ، فقد أعيدت عملية البناء العلمي لهذا العلم، من خلال صعود السلوكية في أمريكا خلال العقدين الثاني والثالث، ومع ذلك ، بحلول أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين ، كان هناك حديث واسع النطاق بين علماء النفس الأمريكيين عن التقارب بين علم النفس والفلسفة.
لم تكن هذه المصالحة بأي حال من الأحوال عودة عامة إلى حالة ما قبل الطلاق (ما قبل انفصال علم النفس عن الفلسفة)، ، بل كانت تقاربًا محددًا لحركات جديدة داخل المجالين. كانت هذه المدارس الفكرية الجديدة هي الفلسفة الجديدة والوضعية المنطقية.
نشأت الوضعية المنطقية في العالم الناطق بالألمانية خلال عشرينيات القرن الماضي كتأكيد على النظرة العلمية الطبيعية للعالم وجدل ضد التقليد القوي للمثالية الألمانية، وتم تدريب معظم مؤيديها ، بما في ذلك منشئيها في دائرة فيينا الشهيرة ، كعلماء ورياضيين ومنطقين وليسوا كفلاسفة، فعباراتهم الأساسية إما تحليلية (على سبيل المثال ، جميع العزاب رجال غير متزوجين ؛ 2 + 3 = 5)، أو يمكن التحقق منها عن طريق الملاحظة (على سبيل المثال ، يقرأ هذا المقياس 43 فولت)، أو لا معنى لها (على سبيل المثال، عالم الخبرة الحسية لا يمكن الوصول إليه).
في هذا النظام ثلاثي التفرع ، يمكن لنا أن نزعم بأن الفلسفة التقليدية تنتمي إلى المنطق (إذا كان تحليليًا) ، أو للعلم (إذا كان يمكن التحقق منه تجريبيًا) ، أو أنه ليس تأكيدًا حقيقيًا على الإطلاق (إذا كان بلا معنى). بمساعدة التطورات الجديدة في المنطق ومبدأ التحقق الشهير، وضع الوضعيون المنطقيون الفلسفة المبنية على الميتافيزيقيا فيخانة الكلام الفارغ أو اللغو الغير نافع، فكل ما تبقى من الفلسفة ، في تقديرهم ، هو التحليل المنطقي للعلم ومفهومه.
وكما كان الحال في الوضعية المنطقية، نجد أن المدرسة السلوكية كانت تعتمد على المنهج المعادي لأي فكر او نزعة ميتافيزيقية لا تخضع لمبدأ التحقق، إلا أن هذا التوجه كان موجودا في المدرسة السلوكية، حتى قبل أن يندمج كلا المنهجان في بوتقة واحدة، ففي إعلانه للسلوكية عام 1913، أعرب جون ب. واتسون بوضوح، عن الرغبة في تجنب التخمين الميتافيزيقي، والتركيز بدلاً من ذلك على الواقع الحدثي الواقعي. ووفقًا لواتسون، فإن معظم علماء السلوك الذين سيأتون بعده، سوف لن يكن هدف علم النفس عندهم هو فقط التحقيق في مجال التجربة الذاتية أو الظواهر العقلية، ولكن الأهم كان لديهم هو كيفية التنبؤ بالسلوك والتحكم فيه، فقد كانت الحجج المعيارية للسلوكية تبتني على منهجية تجريبية بشكل أساسي، على عكس الظواهر التي كشف عنها استبطان التحليل النفسي الفرويدي، فقد تم التوافق على افتراض أن الملاحظة القصدية للسلوك الظاهري، يمكن الوثوق بها وإن كانت متداخلة؛ لذا كانت الادعاءات حول السلوك قابلة للاختبار تجريبياً، ففي كل من النزعة السلوكية والوضعية المنطقية ، كان الموقف المعادي للميتافيزيقية مرتبطًا بالتجربة، حتى شكل مبدءاً صريحا أو ضمنيا لإمكانية التحقق.
في إطار تلك المتشابهات الكثيرة بين السلوكية والوضعية المنطقية، كان هناك مورد تشابه وتقارب إضافية وواضحة بين الحركتين، فمن ناحية ، كان اتجاه كلا الحركتين يمثل نمطا منهجيًا أكثر منه موضوعيًا، فالوضعية المنطقية لم تقدم أية ادعاءات حول طبيعة العالم كما فعلت الفلسفة التقليدية ، لكنها أوصت بالتحليل اللغوي والمنطقي كأسلوب للتفلسف؛ وبالمثل ، فإن السلوكية ككل لم تقدم أي نظرية نفسية معينة ، بل أوصت باتباع منهج التحليل التجريبي للسلوك كمنهج وأسلوب في علم النفس.
ثانيًا ، غالبًا ما يصور مؤيدو السلوكية والوضعية المنطقية حركاتهم على أنها نقاط تحول في تاريخ تخصصاتهم.
على سبيل المثال ، جادل الوضعي المنطقي موريس شليك بأن الصراعات القديمة بين أنظمة الفلسفة المختلفة سوف تتبخر بمجرد أن يكشف التحليل المنطقي أن تلك الأنظمة لم تؤكد شيئًا ذا معنى، وبالمثل ، يعتقد العديد من علماء السلوك أن السلوكية ستقود علم النفس إلى مسار جديد ومثمر، يمكن من خلاله تجاهل المشكلات النفسية التقليدية (على سبيل المثال ، الفكر غير الخيالي ، عدد الصفات الحسية)، يضاف لذلك أن كلا من النزعة السلوكية والوضعية المنطقية، رفضتا الخوض في المشاكل التاريخية المتعلقة بتخصصاتهما، باعتبارها مشكلات زائفة.
التشابه الثالث المشترك بينهما، هو القناعة المشتركة بين السلوكيين والوضعيين المناطقة، والتي تذهب إلى ضرورة القضاء على المشاكل التاريخية، وإخراجها خارج الاعتبارات العلمية والتحليلية لكلا المدرستين، وأن ذلك من شأنه أن يمهد السبيل لتحقيق تقدم تدريجي مطرد، وفي كثير من الحالات ، كان يُنظر إلى هذا التقدم على أنه كل شيء ولكنه مضمون من خلال التطبيق المتسق لأساليب التحليل المنطقي والبحث السلوكي.
بالإضافة إلى هذه المتوازيات العامة في التوجه الفكري ، تشترك النزعة السلوكية والوضعية المنطقية في أسلوب مشترك كحركات منهجية علمية دقيقة، كلاهما كانا عالميين و “صارمين” بالمعنى المعروف للمصطلح لدى ويليام جيمس. في ضوء رفضهم للمشاكل التاريخية لأنظمتهم ، كان ينظر إلى الحركتين من الداخل والخارج على أنهما تطوران راديكاليان، ونتيجة لذلك ، تم تصدير كليهما بخطاب وتعريف علمي ينحو نحو التطرف والمبالغة، نظرًا لأن كلاهما نشأ في بيئات فكرية معادية للمثالية إلى حد ما ، فقد تم الدفاع عنهما بطريقة تميل للعدائية والجدالية.
كلا الحركتين كان يُنظر إليهما على أنهما يمثلان قفزة مهمة في تأريخ تطر الفكر البشري، وتم التعامل معهما على إنهما مفاتيح للتقدم في مجال تخصصهما، وهذا قاد إلى قيام علماء السلوك والوضعيين المنطقيين على حد سواء بالتعبير عن ادعاءات متفائلة بشدة حول الفوائد المستقبلية لدراسة الحالة الوضعية للسلوك، بناءً على افتراضاتهم المسبقة.
تم الإعلان عن السلوكية رسميًا قبل حوالي خمسة عشر عامًا من التأسيس الرسمي للوضعية المنطقية ، لكن أوجه الشبه التاريخية بين الحركتين كانت أقرب بكثير مما توحي به هذه الحقيقة؛ فقد نشأت كلتا الحركتين من أفكار بدأت في الاندماج في عام 1910 من سلالات مختلفة من الفكر في أواخر القرن التاسع عشر، وفي كلتا الحالتين، اتخذت هذه الأفكار شكلاً أكثر تحديدًا في نهاية عشرينات القرن العشرين، ثم ازدهرت في الثلاثينيات.
بحلول أواخر الثلاثينيات ، كان من الواضح أن كلا المدرستين، كانت تمثل التوجهات المهيمنة، كل في مجال تخصصه، (في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، على الأقل)، واستمرت فترات صعودهما خلال الأربعينيات. وفي منتصف الثلاثينيات ، بدأت كلتا الحركتين في إخضاع مناهجهما التي تمثلت في الصي التأسيسية الأولى، إلى صيغة أكثر صرامة.
مع خلفيتهما الفكرية المشتركة وتوجهاتهما الوضعية التجريبية المباشرة، كانت المدرسة السلوكية والوضعية المنطقية تميلان بشكل طبيعي لتشكيل نوع من التحالف، ولكن هذا التحالف نشأ بعد فترات طويلة من العمل الدءوب من أجل تنقية مناهجهما عن أي ذاتية استبطانية أو فلسفية تقليدية، وقبل تصاعد الاهتمام المشترك بينهما في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت النزعة السلوكية محصورة في الغالب في أمريكا ولم تكن الوضعية المنطقية معروفة إلا قليلاً خارج أجزاء معينة من أوروبا الوسطى.
انتهت هذه العزلة الجغرافية خلال الثلاثينيات عندما بدأ نوعان من الأحداث بالظهور. أولاً ، سافر بعض علماء السلوكية البارزين إلى أوروبا ، حيث واجهوا الوضعية المنطقية ، وانخرطوا لاحقًا في حركة الوضعية المنطقية للعلم. ثانيًا ، وهو الأهم ، شهدت الثلاثينيات وصول كبار الوضعيين إلى أمريكا أثناء هجرة المثقفين الأوروبيين قبل الحرب.
بعد الهجرة الفكرية ، كانت هناك تفاعلات شخصية ، وأحيانًا تعاون مهني ، بين السلوكيين والوضعيين المناطقة؛ أخيرًا ، سيطرت على علم النفس الأمريكي ككل وجهة نظر علمية تزامنت في مخطط عريض مع وجهة النظر المشتركة للسلوكيين والمعتقدات الخاصة بالوضعية المنطقية، ففي مجلات علم النفس الأمريكية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، انعكس هذا التكتيك في القدر الكبير من النقاش الذي تم التصويت عليه لمسائل مثل بناء النظرية، والنزعة العملية ، والمسلمات النظرية ، ولغة البيانات المادية. لقد أُطلق على هذه الفترة من الاهتمام النشط من جانب علماء النفس الأمريكيين مع فلسفة ومنهجية العلم اسم “عصر النظرية”.
إن القرابة بين السلوكية والوضعية المنطقية وتأثيرهما العام على علم النفس الأمريكي هو من الموضوعات ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة لمؤرخي وفلاسفة علم النفس. وبالنظر إلى أوجه الشبه التاريخية والموضوعية القوية بين الحركتين ، فربما لا يكون مفاجئًا أن يُفترض عمومًا أنهما مرتبطان ببعضهما البعض في تحالف فكري متماسك. ولن يكون ذلك من قبيل المبالغة أن نقول إن التحالف المفترض للسلوكية والوضعية المنطقية أصبح قصة مركزية في كل من التاريخ المكتوب لعلم النفس الأمريكي في القرن العشرين وفي التاريخ أو “التاريخ الشعبي” الذي يتم نشره بشكل غير رسمي بين علماء النفس الأمريكيين.
المدى التي يتأصل فيها افتراض مثل هذا التحالف في العادات التاريخية المشار إليها من خلال حقيقة أن إدوين ج. جي ، أبرز مؤرخي علم النفس في أمريكا ، تعامل مع السلوكية ، وعلم السلوك ، وعلم النفس العملي ، والوضعية المنطقية كما لو كانوا مجرد جوانب من حركة واحدة. والنصوص التاريخية القياسية والأوراق والمجلدات المتنوعة حول فلسفة علم النفس تربط في الوقت نفسه وبشكل روتيني بالسلوكية ، أو على الأقل السلوكية الجديدة ، وبالوضعية المنطقية.
ومن بين الشخصيات الأكثر شيوعًا في هذا الصدد علماء السلوك الجديد إدوارد سي تولمان ، وكلارك إل هال ، وبي إف سكينر. وقد علق الفلاسفة أيضًا على الارتباط المفترض للسلوكية بالوضعية المنطقية ، غالبًا في سياق الحجج حول اعتماد علم النفس على نماذج عفا عليها الزمن من العلم، ومن ثم فمن المسلم به على نطاق واسع أنه كان هناك نوع من التحالف بين الحركات السلوكية والوضعية المنطقية وأنهما سيطرتا بشكل مشترك على الكثير من مساحات علم النفس الأمريكي في الجزء الاول والثاني من القرن العشرين.
مصادر المقال :
- J. Nelson, ‘Behaviorism is False’, The Journal of Philsoophy, 1969.
Baum, W. M. Understanding behaviorism: Science, behavior, and culture. New York: Harper Collins, 1994.
Hull, C. L. Principles of Behavior: An Introduction to Behavior Theory. Appleton-Century-Crofts. 1943.
Kendler, H. H. Behaviorism and psychology: An uneasy alliance. In: A Century of psychology as science, ed. Koch, S. & Leary, D.. McGraw, 1985.
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية المعاصرة في السياسة.