نحن في مواجهة حقيقية لتغيير قسري للقيم ليس في المجتمعات المستقرة فحسب، بل في المجتمعات التي هي في الأساس في مهب الريح، في مواجهة أمواج متلاطمة من التشبث المذهبي، أو الديني ، أو القومي، أو فقد لملامح الهوية الوطنية ، أو القومية، لا بل الإنسانية، نحن في مرحلة مسخ الوجود الإنساني بوساطة عالم متخيل غير ملموس، لكنه عالم مؤثر جدًا في ما ستكون عليه النتائج، هذه الأداة هي الزائر الذي يرغمنا أن نستقبله بدون أن نستطيع منعه، أو إيقافه وهو ما سنرى كيف يغير سلوكنا وعاداتنا وقيمنا وتقاليدنا ، وأجزم لكم حتى أقوى الدول دكتاتوريةً لا تستطيع إيقاف مَدهِ وتمدده بين أسرنا، دعونا نبدأ بما يفعله فينا . يكاد يكون أي بيت في هذا العالم الواسع لم تدخله تكنولوجيا الأتصالات، ولم تنخر به الأفكار الغريبة مثل ازدواجية القيم، وتفتت الأعراف، ونخر الرجولة أو الأنوثة، إنه عالم غريب، عالم يتحول فيه الشاب إلى شبيه له في علاقة فاقت الحدود، لا الدين أستطاع إيقاف هذا الغزو الفكري، العقلي، النفسي، الإنفعالي، ولا الحكومات مهما كانت قاسية، أو متسلطة في إيقاف هذا النزف الهادئ للقيم، فالأسرة هي جزء اساس في تكوين سلوك أفراد المجتمعكما هو معروف، وأن الأسرة هي أول نواة يتأسس بها البناء الإجتماعي، والقيم، والالتزام، ثم تليه التنشئة الإجتماعية التي تضم أولها الاسرة والدين والمدرسة والاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والأقران، كل تلك اصبحت أدوات بيد العالم الإفتراضي، العالم المتخيل، عالم يحرك السلوك وعمليات التفكير، وتدلنا دراستنا للتحليل النفسي أن الإنسان تجمعه هذه القدرات : التفكير، الكلام، اللسان، هذه الثلاثية هي التي تحرك الفرد في التعامل، فكيف إذا تم تعطيلها ومصادرتها باتجاه واحد، محرك واحد، مؤثر في كينونة الإنسان وتكوينه، أنه العالم الافتراضي المتخيل، عالم الصورة والصوت، عالم المسرح داخل أروقة افتراضية، لغة خاصة، أسلوب خاص، لسان خاص، رموز تحمل الرمزية في شفراتها، يفهمها ممن تمعن في هذا العالم الافتراضي، يمكننا القول أنه عالم اللاوجود الذي ينطلق منه الوجود، لأن الغرض والهدف بعيد لا يمكن إدراكه ولا يمكن التعرف على مضمونه البعيد، وإن بانت للسطح بعض تلك العمليات الخارجية، نستطيع أن نستعير من التحليل النفسي سبر أغوار هذه الظاهرة التي يعتنقها جيل بأسره، سلبت عقولهم ومقدراتهم، نقول أن هذا العالم هو تمثل ينبع من الشيء المؤثر بحتميته والذي هو في الأساس لم يكن له وجود سوى في القوة المؤثرة في العقل الجمعي. أن علاقة الفرد الذي أدمن العالم الإفتراضي هي علاقة تنحصر في تمثل ” يعني مجموعة تصورات تتثبت عليها الرغبة خلال فترة قصيرة من حياته وتدون في النفس البشرية”، أي في آخر المطاف في الشيء الذي كان مصدرًا للإغواء، لأن الرغبة هي الدافع الاساس الذي أدى إلى ازاحة كل الرغبات الأخرى في الواقع، ومنها التعليم والنجاح وتحقيق الطموح، واقامة علاقة مع آخر في الواقع، ولا نغالي أن قلنا ، أنه خصاء العقل مقابل الواقع المهزوم، فأنصب الهدف نحو مصادرة هذا العقل بشكل تام. أستطاع هذا العالم الخيالي الافتراضي قتل رمز الحياة الاساسية والعمل والتواصل مع الاهل وتكوين بنية نفسية ضمن قيم المجتمع المحلي وتقاليده واعرافه، إلى عالم خارج أطار الواقع، عالم رمزي خارج اطار اللغة ومنبعها في التفكير ثم شلل اللسان في التعبير، ويمكن القول أن العالم الافتراضي وشبكات التواصل استغنت عن وجود الإنسان في الواقع وأدلج في موضوع ضائع له لغة وكلام ولسان خاص به.
ترى الدراسات النفسية أن قيم المواطنة كادت أن تمحى، وقيم الأخلاق سحقت، لأن العرض المباشر لكل شيء مباح وبلا قيود لدى الذكور والاناث، الاجساد رخصت، وألوان الاستعراض الجنسي باتت متاحة لحد غرف النوم، والتسجيل مقابل ثمن وايصال البضاعة الجنسية سهل جدًا وفي مختلف الثقافات والحضارات واللغات والمجتمعات، ومن يدمن على هذا العالم يربح ويخسر، يربح من مشاهداته وكثرة علامات الاعجاب وبالاخص للأسرة وتفاصيل حياتها، فيكون الدخل مغري جدً، وكشف الكثير من خصوصية الأسرة الشابة واسلوب الحياة المتبع، وكلما كانت العروض سخيه، زاد العائد المادي من شركات العالم الأفتراضي، هذا ما تحققه الأسرة من عوائد مادية، مقابل خسائر أيضًا منها فقدان الزمن والوقت، فضلا عن الصحة، والجهد، والادمان الاليكتروني، وضياع فرص الحياة الواقعية، انه أضطراب القيم وانتحارها ببطء بوساطة وسيلة اجتماعية للتواصل تتميز بصفة التخدير الفكري والعقلي والانفعالي والنفسي، أي بلغة علم نفس الأعماق بتناقص في مفهوم العلاقات بين الإنسان والأخر، أن مستخدم أجهزة التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي يتأمل نفسه بشكل مرآتي، يتحكم بهذه العلاقة ما بين الذات والذات الاخرى، وهو انقسام أساسِ داخلي خاص بكل طرف، هذا العالم الافتراضي بوسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة والمتعددة تتحكم في العلاقة بالفرد مثل العلاقة بالمسيطر” السيد” والمسيطر عليه” حتى يتحول إلى عبد مطيع لا يستطيع مغادرة مكانه ولحظة ذهابه إلى المرافق الصحية، أو أداء عمل يكلف به، وتكون هذه العملية في وضح النهار وفي الليل حتى تصبح العلاقة عشقية، فيقول العاشق للمعشوق : أنا أنت وانت انا، خصاء أو ربما عقدة الخصاء العقلي، ويستمر التدهور بلا حدود وبلا ضابط أو معيار يقاس به المجتمع في كل العالم.