الدكتور زاحم محمد الشهيلي
تعد معرفة المرء بمعلومات عامة عن تاريخه القديم والحديث، وبالقدر الذي يجعله ينطلق بامان نحو تحقيق الاهداف في البناء الحضاري والفكري في حاضره ومستقبله المستوحى من سفر التاريخ، من مسلمات الامور في بناء الشخصية الانسانية المعنوية.
لكن المشكلة في بلدان الشرق الاوسط اضحت تتمحور في تقديسها – حد الثمالة – لمنجزات اسلافها في الماضي الموغل بالقدم، في الوقت الذي لم يضف المرء ما هو جديد على ذلك المنجز التاريخي المندثر بين طيات صخور ورمال اطلال الماضي، الامر الذي ولد لدى الانسان الشرقي – العربي تحديدا- ثقافة التمسك والانشغال باحداث ماضيه دون التفكير جديا بابجديات ما سيضيفه الى منجزات اسلافه في حاضره ومستقبله، وعليه اصبحت علمية ومهنية وثقافة الانسان لدى اصحاب القرار تُقَيَّم على اساس ما يحفظ من وقائع تاريخية عن ظهر غيب وليس على اساس ما يحمله من مخزون علمي وفكري ونظرة مستقبلية وخبرة في الادارة والتنظير لبناء الحاضر وكيفية الانطلاق بامان الى المستقبل.
ان نمط التفكير الانهزامي الى الماضي لدى اصحاب القرار ناتج عن الاستسلام وعدم القدرة على انتاج ما هو جديد يواكب التطور العلمي والفكري العالمي، وهذا الامر نابع من التفكير في المحافظة على بقاء الانظمة الحاكمة لأطول فترة ممكنة، مما يحتم على صاحب القرار تحجيم الفكر العلمي والثقافي للفرد والعودة به الى الماضي السيء وليس الجيد في حياة المجتمع المتمثلة بسوء القيادة والادارة وكيفية تكوين الدكتاتوريات لغرض الاستئثار بالسلطة ومصادرة ارادة الشعوب.
وتكمن مرارة الحاضر وعقمه في انتاج مستقبل افضل للشعوب العربية في الشرق الاوسط في تحجيم دور المفكرين والعلماء في الارتقاء العلمي والفكري للبلدان، حيث يعزا ذلك الى عدم وجود المفكر والعالم ضمن اصحاب القرار الذين تقع على عاتقهم ادارة الدولة وتقييم الكفاءات وتاهيلها لتتسنم مناصب مؤثرة في ادارة المؤسسات الحكومية، لانه من المنطق ومسلمات الامور ان العالِمَ لا يقيمه الا عالما، والمثقف لا يقيمه الا مثقفا، والمهني لا يقيمه الا مهنيا، يضاف الى ذلك مسالة الخوف من ذهاب المناصب الى غير الموالين مستقبلا، ناهيك عن المحسوبية والمنسوبية وانعدام المهنية والعقد النفسية التي يعاني منها صاحب القرار او المُقيم في التعامل مع المعطيات العلمية والفكرية للشخص المُقَيّم، والتي يجب ان ترتقي بها الدولة الى ما هو افضل في الحاضر والمستقبل، ولذلك يتم التقييم والاختيار ليس على اساس منتوج الانسان الفكري والعلمي ومهنيته في العمل وتدرجه الوظيفي وما حققه خلال مسيرته العلمية والعملية من انجاز، وانما على اساس الولاءات تارة، وما حفظه عن تاريخ شخصية دكتاتورية او حزب فاشل في ادارة الدولة او خلاف سياسي حدث بين طرفين متناقضين فكريا وعقائديا في الماضي السحيق او عن كتاب كان قد قرا المُقيّم عنوانه صدفة لشخصية غامضة في فترة سابقة من الزمن لم تقدم منجزا سياسيا او اجتماعيا او فكريا يذكر، وان اتباع كل هذه السلوكيات الرخيصة يهدف الى ايجاد الحجج للطعن في علمية ومهنية وشخصية الشخص المُقَيّم تارة اخرى، وعلى هذا الاساس يؤتى باصحاب القرار الجدد بما يتلائم والتفكير الرجعي لاصحاب القرار السابقين، وبهذه الطريقة يتم استنساخ التجارب الفاشلة في ادارة الدولة، وتسير عجلة التخلف على عكس ما تتمناه شعوب المنطقة من تقدم وازدهار حالها حال الشعوب الاخرى.
وهذا الامر ينطبق ايضا على التمسك بافكار الماضي للحركات والاحزاب وعدم تحديثها مع مرور الزمن، وكذلك في كيفية اعادة دراسة وتقييم وانتقاء العلاقات مع دول المحيط الاقليمي والدولي وصياغة المواقف من التحالفات الدولية بما ينسجم ومصلحة البلاد، الى جانب عدم اعادة دراسة وتقييم القضايا التاريخية في الشرق الاوسط كـ “القضية الفلسطينية” و”قضية الارهاب” والقضايا الاخرى ذات العلاقة في سورية وليبيا والعراق واليمن، حيث لم نجد هناك من يعيد قراءة هذه الامور المهمة بموجب التطورات الدولية والمعطيات التاريخية ليضع الحلول والتوجهات الصحيحة في الحاضر والمستقبل وبما يتلائم ومصلحة شعوب المنطقة وسعادتها وتجنيبها ويلات الحروب والازمات ونهب الخيرات وآفة التخلف والانحدار الفكري والاجتماعي.
وعليه نرى ان هناك الكثير من الشخصيات واصحاب القرار امسوا تواقون للماضي ويبحثون عن من ينتج لهم التاريخ مرة اخرى لانهم لا يروا ان باستطاعتهم ان ينتجوا حاضرا يليق بشعوبهم وتاريخها العريق، فلو كان اصحاب القرار في الشرق الاوسط انهزاميون حقيقيون الى الماضي الجميل لاستطاعوا ان يصنعوا حاضرا مزدهرا ومستقبلا مشرقا لاوطانهم.