اسمعيني يا سندريلا …
كنتُ طبيب والدتها ولهذا أشرفتُ على ولادتها في أحد مستشفيات النرويج.. لا أدري لم اختارت لها هي هذا الاسم !! أبت إلا أن تدعوها “سندريلا”. قالت لي أنها تريدها جميلة مثل الروايات.. قالت لي أنها لا تؤمن بخرافة الروايات ، وأنها ستعيش – بإذن الله – من أجل أن تربي سندريلا، وقد يتزوجها أمير وستغير التاريخ والقصة والأدب ، فلن يكون هناك زوجة أب هذه المرة ….
مضى وقت طويل منذ رأيت سندريلا.. فقد عادت هي إلى بلدها وبقيت في هجرتي لبعض من شأني بضعاً من السنوات، ربما كانت وقتها سندريلا في الخامسة أو السادسة من عمرها.. ولكنني لم أنقطع تلفونياً عنهم، وكنت أحدث السندريلا باستمرار.. كانت مثل لعبة باربي في آخر مرة رأيتها فيها، شقراء ذات عيون زرقاء. خفتُ عليها من الحسد، قالت لي أمها – لا تخف ، سأزوجها أمير وسترى وستحضر الزفاف إن شاء الله ..
وأخيرا عدت إلى الوطن وذهبت لأرى السندريلا وعائلة صديقي… كانت قد قاربت على الثامنة عشرة، لم أعرفها حين رأيتها، لم أصدق أن هذه الفتاة هي السندريلا التي أعرفها !! أين ذهب الجمال ، ولماذا حل محله هذا الذبول؟!!.. لم أر عيوناً زرقاء ،ولم أر شعراً أشقر أو هكذا ظننت، لأنني لم أر السندريلا التي عرفتها في سنواتها الأولى…
سألتها: “ماذا بك يا سندريلا؟!…”
قالت لي: “هي الدنيا يا دكتور، كل شيء تغير. أنظر صوري القديمة فلا أكاد أصدق أنني أصبحت هكذا… حلمتُ بالكثير في السنوات الماضية، أصبح عمري في الثامنة عشرة وقالوا لي أنني أعندما أكبر سأصبح حرة في اختياراتي ومستقلة في حياتي.. ولكنني لا أرى إلا الاضطهاد من كل من هم حولي… لم أسمع سوى الأكاذيب، ولم أرى سوى الشجار بين جميع أفراد عائلتي ، وحتى بين أخوتي أصبح كل منهم ينام في غرفة مستقلة بل ويخاف على حياته من أخيه… مات أبي وأصبح كأنه لم يكن، فقد اختفى واختفت سيرته معه بعد أن كان يملأ الدنيا جدالاً وشجاراً.
أمي يا دكتور أصبح عمرها أربع وأربعون عاماً، والشعر الأبيض بدأ يظهر على رأسها، ولا أراها سوى واجمة تُحاكي نفسها.. عاشت حياتها بين أكاذيب من حولها، وعودٌ وعودٌ.. ولكن لا أحد يهتم بها أو بأولادها، بل على العكس تبذل حياتها من أجل حماية أولادها وبالكاد تستطيع الحفاظ عليهم..
ولا أدري إن كنت تعرف جدتي يا دكتور، فهي بعد أن بلغت هذا العام الثالثة والستين من عمرها، تراها وكأنها تعيش في عالم آخر لا يمت إلى عالمنا بصلة، وتتحدث باستمرار عن لصوص وقُطاع طرق محترفون نهبوها وأهلها وهي صغيرة وساعدهم في ذلك بعض من ذوي القربى، ووعدها القاضي قبل ستين عاماً أن يعيد الحق إلى أصحابه، ولم يصلها أي حق حتى الآن… لا أدري إن كانت مجرد تخاريف أم هو صحيح..”
قالت لي: “هذا العام كان حاراً جداً ، قالوا لنا أنه سيكون ربيعياً.. ولكننا لا نشم إلا رائحة الحرائق من حولنا… بعد كل هذا كيف تريدني أن أكون يا سيدي…”
قلت لها: “إجلسي يا سندريلا واسمعيني…” رغم أني لم أكن ذلك الشخص الماهر في الحديث، ولم أكن ذلك الحصيف الذي يعطي أفكاره بطريقة سلسة لمحدثيه، ولكنني كنت أشعر أنني العم المخلص والمحب لهذه السندريلا التي عشتُ معها وفيها فترة من عمري…
قلت لفتاتي الصغيرة المظلومة والمقهورة: “لا أدري يا ابنتي لم يحصل كل هذا معك، فأنا مقتنع تماماً أنهم ظلموك وأخذوا حقوقك وربما كان ظلم ذوي القربى أشد إيلاماً، ولكنه واقع،عليك أن تعرفي أنه لن ينتهي قريباً، وأنك ستتعايشين مع هذا الظلم على مر السنين، وستجدين هذا طبيعياً ، فالظلم في هذا العالم جزء من طبيعة حياتنا…
يا سندريلا عيشي حياتك ولا تفكري بالظلم الذي وقع ويقع عليك وليس لك إلا أن تُعلمي وتُدرسي الأجيال القادمة أن هناك ظلماً وقع عليك وعلى ذويك وعليهم تحميل حقوقهم إلى الأجيال القادمة حتى يعود الحق لأصحابه، ولا تقبلي تعويضا أبداً عن هذا الحق..
يا سندريلا ، لن يأت ربيع إلى حيِّنا قبل أن نعود إلى حُبنا لبعضنا وحبنا لبلدنا، لن نر الربيع، قبل أن نؤمن بالعطاء قبل الأخذ، قبل أن نؤمن بقدرتنا على حماية حقوقنا، لن يأت الربيع يا سندريلا لوحده، فقد جاء الوقت الذي علينا فيه أن نجر الربيع إلى وطننا ولا ننتظر حضوره وحيداً، يجب على جيلك أو جيل من يأتي بعدك يا سندريلا أن يغير مجرى النهر وإلا فأن الانتظار سيكون طويلاً.”
غادرتُ السندريلا وأنا أرى الدموع على وجنتيها الذابلتين، ولكن لم يكن في جسدي المتهالك ما أستطيع أن أعطيه غير كلمات وكلمات، بينما كانت تنتظرني لأعيد الحق لها.. لك الله يا سندريلا الخيال والقصة فقد كنتِ أسعد حالاً وأنت لا تدرين…