ادوارد سعيد ومهمة الناقد
الدكتور عبدالقادرحسين ياسـين
إدوارد سعيد ، الأكاديمي والمفكر العالمي الفلسطيني الأصل ، يعتبره كثيرون واحدا من نخبة مثقفي القرن الذين استطاعوا القيام بدور الجسر بين ثقافات مختلفة . أهميته تبرز من تعددية اهتماماته وغزارة كتاباته ومنهجه النقدي الذي لا يجامل فيه . والنقد هو سمة سعيد وهويته ، وهو يمارسه باعتباره الوسيلة الأهم للإبقاء على الجوهر الإنساني للأشياء ولإزالة ما يحيط بها من تشوهات وتحيزات وخداع . ويمتد نقد إدوارد سعيد الذي سطره في كتبه من نقد الإمبراطوريات الكبرى وحركات المد الكولونيالي إلى النقد الروائي إلى النقد السياسي إلى النقد الموسيقي وصولا إلى النقد الذاتي والعائلي الذي برز بطريقة مدهشة في سيرته الذاتية التي أصدرها بعنوان “خارج المكان” ، ونقد فيها والده وكثيرا من أفراد عائلته وأصدقائه .
وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا يقوم المحرر بول بوفيه بتشريح إدوارد سعيد ، الناقد من كل الجوانب ، من خلال المساهمات التي ساهم فيها عدد من متابعي سعيد ومن كتبوا عنه في السابق . في البداية يجدر القول بأن المحرر أحسن صنعا بتصديره للمساهمات التي ضمها إلى هذا العمل الاقتباس التالي عن إدوارد سعيد : “أنا مع الحوار بين الثقافات والتعايش بين الشعوب . إن كل ما كتبت عنه ، أو ناضلت لأجله يشير إلى هذا كهدف أساسي ، لكني أعتقد أن العدالة الحقيقية والمبادئ الحقيقية يجب أن تطبق قبل البدء بأي حوار حقيقي” .
وأهمية هذا الاقتباس أنه يضع إدوارد سعيد في المكان الصحيح والمتوازن والذي لا يلحظه كثير من نقاده ، كما يتجاوزه أيضا كثير من معجبيه . فإدوارد سعيد ، شأنه في ذلك شأن كبار المثقفين والمفكرين ، كان ومازال محط إعجاب وتبجيل ونقد وخلاف وعداء أيضا . ولأنه مثقف ومفكر وموسيقي غير مساوم يجهر بالحقيقة على آخر مداها من دون احتساب مسبق لموازين الربح والخسارة ، فقد استطالت صفوف المعجبين به وكذلك صفوف خصومه . وفي هذا الكتاب ، الأول من نوعه عن سعيد ، يجمع المؤلف أهم الرؤى والآراء في فكر سعيد ومسيرته الكتابية والسياسية والموسيقية .
تميز سعيد ، بحسب ما يرى بوفيه ، يأتي من جمعه لخصال ثلاث في آن معا تمثل حال وجودها في أي شخص الكينونة الحقيقية للمثقف المسؤول والكوني . هذه الخصال هي الاتساع والعمق في المعرفة ، والرصانة التاريخية والأكاديمية ، والبعد الأخلاقي والقيمي في الموقف السياسي الذي من دونه لا تقوم الحضارات . وغياب أي من هذه الخصال يحول المثقف إلى مجرد موظف عادي أو أكاديمي جاف ينضاف إلى جحافل الأكاديميين في طول وعرض العالم . ويترتب على البعد القيمي في الموقف السياسي رفض منطق القوة والغلبة والتفسير الهوبزوي للعلاقات البشرية ، والنضال من أجل “العدالة” كمبدأ إنساني رفيع لا يخضع لمنطق القوة ولا ينحاز لصالحها. وعلى قاعدة “قيمة العدل الإنساني” بين بشر متساويين ، أطلق إدوارد سعيد مشاريعه الفكرية الكبرى ، بدءا بالكتابات الأولى عن فلسطين “السماء الأخيرة” ، ثم العمل المفصلي “الاستشراق” في سبعينات القرن الماضي الذي قلب فيه التصورات الغربية عن الشرق رأسا على عقب ، وصولا إلى سفره القيم “الثقافة والإمبريالية” عام 1994 ، ثم انخراطه في كتابات ناقدة للعملية السلمية بين إسرائيل والفلسطينين باعتبارها تدوس على منطق “العدل” وتغلب سرديات المنتصر ، وليس انتهاء بتسطير سيرته الذاتية الغنية بالتصوير ذي الأبعاد المختلفة لحياة فردية تنعكس فيها تحولات منطقة بأسرها ، وخروجها من زمن ودخولها في آخر .
على أن ما يميز سعيد عن كثيرين من مثقفي العالم الثالث ، كما تسهب المساهمات في التوضيح في هذا الكتاب ، هو أن منطق “العدل” الذي يتحيز له ويقيس الأشياء عليه ، لا يتوقف تطبيقه عند التعامل مع الإمبرطوريات الاستعمارية ورواياتها عن البلدان والشعوب المستعمرة ، ولا عند نقد السلطات القامعة أيا كان مصدرها ، الدولة أو المجتمع ، بل إن ذلك المنطق يمتد ليشمل الذات ، الجمعية هنا ، ونقدها بلا هوادة وعدم تنزيهها عن الأخطاء .
وهو هنا يركز على أن من أبرز مظاهر الظلم والإجحاف هي ما تنطوي عليه المشروعات القومية والمحلية التي تخبئ تحت شعاراتها الكبرى إكراهات لا تقل قسوة عن إكراهات المستعمر . وقد أبدع سعيد في “الثقافة والإمبريالية” ، في إعادة إنتاج نقد فرانز فانون للمستعمر (بكسر الميم) لأسباب أكثر وضوحا من أن تحصى ، وأيضا للمستعمر (بفتح الميم) لأسباب خفية تحتاج إلى وقفة . فمن ضمن هذه الأسباب أن المستعمر (بفتح الميم) ، وفي خضم انخراطه المحموم والمشروع في الكفاح ضد الاستعمار قد يلجأ إلى حيل وممارسات الاستعمار نفسه ويطبقها على أبناء شعبه أو شرائح منهم .
ولهذا فلا بد أن تكون عين النقد مفتوحة باتساعها على الطرفين ، ومهمتها التصويبية هي نقد المستعمر (بفتح الميم) وعدم مجاملته إذا أخطأ وذلك حرصا عليه كي لا ينزلق إلى مسار من استعمروه . فإدوارد سعيد يرفض التعميمات المطلقة تجاه الحضارة الغربية ، كما رفض التعميمات الغربية تجاه الشرق في “الاستشراق” ، وهو يرفض على العموم “السرديات الكبرى” (meta narratives) التي تتبناها حضارة ما تجاه الحضارات الأخرى ، ويرى أن ليس ثمة سرديات كبرى ، أو رواية واحدة للتاريخ والحضارة بل هناك تعددية وتنوع في مسار التاريخ ، وهناك تصورات ومخيلات لا مجال لتفضيل إحداها عن الأخرى ، إذ أن كل منها يخضع لانتقائيات ثقافية واجتماعية خاصة بها .
فالخطر الكبير في السرديات الكبرى هو أنها تنطوي على نظرة “تراتبية” تجاه الشعوب والمجتمعات ، ترتبها حسب “الأفضل فالأفضل” وهذه عنصرية أنثروبولوجية لا مناص منها ، وذلك كما كان واضحا في مثال استعمار الرجل الأوروبي الأبيض للشعوب الأخرى ، الذي تأسس على قاعدة “تنوير” تلك الشعوب ونقلها إلى مستوى الحضارة الأوروبية . وكل نتائج التراتبية الحضارية ، مثل “المركزية الأوروبية” Euro-centrism هي في الواقع محاضن للعنصرية المقيتة .
ويبرز نقد سعيد للتراتبية الحضارية ليس فقط في نقده للتراث الروائي والفكري الغربي (مثل نقده لكيبلنغ وأوستن وفيردي وغيرهم) ، بل في امتداده لنقد مثقفين من ذوي أصول عالم ثالثية لكنهم تبنوا وجهة نظر أوروبية في احتقار الثقافات الجنوبية ، وخاصة العربية الإسلامية ، وعلى رأس هؤلاء ف. أس. نايبول ، الذي حاز على جائزة نوبل ، والذي انتقده سعيد بشدة.
لكن في مقابل ذلك يرفض سعيد أن يتلذذ مثقفو العالم الثالث بشتم الغرب صباح مساء وتحميل الغرب وسياساته وسياسيه كل مسؤولية التخلف والضياع والفقر الذي تعاني منه الشعوب الفقيرة . فهو يحمل نخبة ما بعد الاستقلال العالم ثالثي مسؤولية لا تقل عن تلك التي يتحملها الاستعمار المباشر في إعاقة النمو والتحضر في أوساط تلك الدول والمجتمعات . وقد نحت مقولتان شهيرتان تنطويان على عمق شديد ، يركن في أعماقها مبدأ العدل في النظر والتحليل والتوصيف ، الأولى تقول “لا تضامن من دون نقد” (no solidarity without criticism) ، والثانية تنتقد ما وصفه “رطانة اللوم” (rhetoric of blame) ، وفي كلتا المقولتين يتوجه سعيد إلى مثقفي العالم الثالث حيث يرفض أن يكون “التضامن” مع أي قضية عادلة خاليا من النقد ومنزها لها عن الأخطاء ، فالنقد هو مبضع الجراح الذي يزيل الأورام أولا بأول ويسهر على صحة المسار . وبنفس الشدة من النقد فإن سعيد ضد “ثقافة إلقاء اللوم على الآخرين” لأنها ثقافة عاجزة لا تنتج عملا بل توفر ذرائع للقعود والاتكاء على وسائد الراحة .
ورغم أن تميز إدوارد سعيد الأولي جاء في حقل النقد الأدبي وتأسيس مذهب “النقد ما بعد الكولونيالي” (post-colonial criticism) ، والذي يعتبر عمله “الاستشراق” العمود الفقري لهذا المذهب ، إلا أنه تخطى حدود التصنيف في إطار حقل واحد . فقد أمدت ثقافة سعيد العالمية الموسوعية نظراته بعمق وتنوع شديدين ، في الفكر والثقافة والسياسة واللغة والتاريخ الأدبي .
إلى جانب ذلك فإن معارفه الموسيقية الواسعة ومتابعته لتاريخ الموسيقى ، وإصداره كتبا في هذا المجال ، وممارسته للعزف على البيانو بمستوى المحترفين ، كل ذلك أضاف أبعادا جمالية سواء على كتاباته أو أدواته النقدية ، فكان يمزج كل تلك الخبرات في العمل النقدي، سواء أكان أدبيا ، أم فكريا ، أم سياسيا ، وكانت الخلاصة على الدوام أعمال مبدعة وضعت سعيد في مصاف كبار مثقفي العصر الحالي ذوي النزعة الكوزموبوليتانية الإنسانية .