عبدالامير الركابي
يورد المفكر الاسلامي الكبير الشهيد محمد باقر الصدر، في كتيب له عن ” المهدي” فكرة تبدو للبعض غريبة، وتمثل تصادما جليا مع مايمكن اعتباره ” حقائق علمية “، فهو من جهة يؤكد بان المهدي موجود قطعا، كما انه يقول بان احتمال بقائه حيا لالف عام، ليس بالامر غير الممكن، ويقول عبارة صادمة، لاياتي عليها بدليل قاطع، اذ يذكر بان عيش الانسان لالف عام ليس هنالك ماينفيه، او يمنع حدوثه من الناحية العلمية. ولاننا نعرف بان السيد الصدر ليس ممن يلقون الكلام على عواهنه، فلقد لفت نظري قوله هذا في حينه، فرحت اسال وادقق بين يدي اصحاب الاختصاص، فلم اجد مايؤيد علميا ماورد على لسانه في الكتيب المذكور، وفي اقصى الحالات، قيل لي بان الجسد البشري مبرمج كامكانية مفترضة، على العيش ل 250 عاما بالحد الاقصى.
ولعله مما يضيء على جوانب من قضية المهدي، ان اذكر هنا رايا للمرحوم السيد محمد حسين فضل الله، سمعته منه شخصيا، خلال لقاء بيننا، فلقد قال لي بان : ” المهدي سيكون له قرآن جديد “، اوانه ” سيفسر القران تفسيرا لاعلاقة له بتفسيرنا الحالي بحيث يكون له معنى القران الجديد “، كما سمعت منه قوله ” ان المهدي يعدل بنبي “، وكما هو واضح، فان هذين المفكرين الكبيرين هما ممثلان لمدرسة الغيب والتسليم، اي انهما مفكران يعملان داخل نطاق قانون الغيب او علم الغيب، وان السيد محمد باقر الصدر لم يكن محتاجا لان يتطرق الى العلم فكان بمقدوره ان يذهب الى اسناد قضية طول عمر الامام ” الغائب” الى الارادة الالهية، فينهي الحديث قائلا، وهذه ارادة الله وهو على كل شيء قدير. الا انه شعرفي حينه ان التعرض للعلم الذي كان الايمان به وقتها على اشده، ضروريا. بينما يركز الاستاذ احمد الكاتب على مسالة محورية، تمثل جوهر فكره السياسي، تلك هي فكرة ” السلبية” الشيعية “، والخنوع وطاعة ولي الامر ” السنية، ومع وجاهة دوافع الاستاذ احمد، ووجود مايبررها آنيا، الا انه للاسف وقع في المطب الذي يقع فيه المتعجلون او المتاثرون بالمصادر المتوافرة، خارج البنية الثقافية والفكرية والتاريخية لمنطقتنا.
وهؤلاء على تعددهم وتلونات منطلقاتهم، يتشابهون في الجوهر، وهم بالاجمال يريدون لمنطقتنا ان تجاري الغرب في نهوضه الحالي، وان كان ذلك خارج القوانين الكونية، وبالضد منها، فما يهمهم هو ان نخرج مما نحن فيه اليوم، وان نصبح ” متقدمين ” مثل اوربا والغرب ، فما السبيل الى ذلك ؟ السبيل هو تبني مالدى الغرب من مفاهيم، ومانعتقده محركات تاريخية ادت الى نهضة الغربيين، و تسببت في” تخلفنا “. والحقيقة ان هذه الطريقة في التفكير كانت وماتزال تجد من ينتمي اليها، وانا شخصيا مررت بفترات من حياتي، كنت احد متبنيها، قبل ان اكتشف نسبية التاريخ، من ناحية، وقوة قوانين ” الغيب “الكونية من جهة. وحسب ماصرت اراه، فان الامم لاتنهض كلها مرة واحدة، وان العالم موزع الى امم ومسارات، تضمن التدافع والتحدي الذي هو مولد الحراك والاكتشاف والبحث، ولو كانت الامم كلها ناهضة ومتقدمة، وظلت كذلك دائما والى الابد، اذن لضعفت اليات الاكتشاف والابتكار، ولتراجعت عبقريات الامم والشعوب وهمدت، لذلك فان تقدمنا وتخلف الغرب من قبل، وتقدم الغرب وتخلفنا الحالي، هو من حقائق وقوانين الوجود، وحوافز التقدم الاشمل على مستوى الوجود الانساني العام: ” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا “.
ولولا هذا الوضع، ولولا تبدل الاحوال، وتبادل المواقع بين الامم لماظهر امثال احمد الكاتب، ولما ظهر غيره من ليبراليين وماركسيين وقوميين عرب، واقاموا احزابا وكتبوا واقترحوا، مخلفين اطنانا من الاراء والمقالات والكتب والتجارب، ولولا القانون الحضاري الاعلى والاشمل ايضا، لما فشل هؤلاء، ولما وصلت تجاربهم واراءهم، الى طريق مسدود مثل الطريق الذي ابتدعه لنا الاستاذ احمد، وقال بانه السبب وراء اختلاق مهدوية ” محمد بن الحسن العسكري ” مع فارق يغفله الكاتب، فالذين واجهوا المازق حسب زعمه ايام العباسيين، اختاروا الطريق الملائم، وترسموا القوانين التاريخية المطابقة للمنطقة، فتمكنوا من ايجاد سبيل عاش وظل حيا وقائما الى الان، اما الحداثيون الحاليون، فانهم وياللاسف يصرون على اعتماد او اتباع المنهج الحضاري الفكري والتاريخي المستعار من الحضارة المقابلة.
والسؤال الحاسم هنا، هو هل يمكن ان نتصور مجيء او ظهورحضارة اعلى من حضارة الغرب الحالية، ام ان هذه الحضارة كما هي قائمة الان، تعتبر نهاية مسار حضارة وحياة الانسان على هذه الارض؟. اي هل ان الوضع الحالي، اي تقدم الغرب وتاخرنا، امرنهائي لافكاك منه، ام ان له مابعده، واننا يمكن ان ننهض ونتجاوز الغرب ونهضته الحالية، هذا امر يتوقف على حكمة الوجود والتاريخ، لكن الذين لاتذهب ابصارهم وبصيرتهم الى ماهو ابعد من الغرب الحالي، يستحيل عليهم ان يفكروابما يتجاوز حضارة الغرب، علما بان هؤلاء انما يقررون انهاء الحضور والخاصيات الحضارية التوحيدية لمنطقتنا، ولايرون فيها اية خصوصية، او ميزة، او حكمة ” غيبية “، قابلة لابتداع قفزة حضارية ومفهومية جديده، وبما انهم كذلك، فانهم يلجأون حتما الى مذاهب تشبه مذهب الاستاذ احمد الكاتب، ويقررون الغاء القانون الخاص، وايقافه، وتعطيل فعله لمصلحة الغرب وحضارته ومناهجه.
مالفرق بين السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد حسين فضل الله، وبين احمد الكاتب ، الكاتب لايفرق بين المهدوية والمهدي المشخصن، فهو يظن ان المهدوية يمكن ان تموت بموت ” المهدي “، وبموت او نفي وجود محمد بن الحسن العسكري بالذات، والغائه باعتباره التجسيد الحي للمهدوية الشيعية. في حين يتمسك الصدر وفضل الله بالمهدي المشخصن، ويسعيان الى خرق القوانين الطبيعية اذا تعارضت هذه مع مايؤمنان به، وهما انما يفعلان ذلك لاسباب مذهبية من جهة، واسلامية ابراهيمية ” غيبية “من الجهة الثانية، فالمهدوية ليست قانونا شيعيا، بل هي قانون توحيدي، اما المهدي المشخصن اي ” محمد بن الحسن العسكري ” فهو ممثل المهدوية ضمن نطاق بعينه من الاسلام هو الاسلام الشيعي.
والمهدوية كما تتجسد اليوم، هي التعبير عن قانون ” الغيب” خلال مرحلة مابعد النبوة الالهامية، وهي موجودة بصيغ واشكال متعددة بين المسلمين كافة، وان اختلف شكل التعبير عنها، سواء بالمهدى عموما، او ب” الطائفة الناجية ” لدى السنة او ألخ … فثمة افق يواجهه المسلمون اليوم، وهذا الافق السابق على يوم القيامة، يولد رؤية او مفهوم ” التاريخ المسبق ” وهذه خاصية من خاصيات ” علم الغيب”. اذ ان التاريخ في هذه المنطقة، له وجه مستقبلي عادة ماياخذ شكل النبؤءة ، فقبل مجيء النبي محمد / ص / كانت التبؤات عن ظهور نبي اسمه احمد قائمة، وكان العبرانيون منذ النبي ابراهيم ينتظرون دائما ويتنبأون بالمستقبل وبظهور الانبياء، وهذا النوع من الممارسة، اسسه النبي ابراهيم العراقي، حين وضع مفهوم ” الوعد ” و” وراثة الله الارض وماعليها “، اذن فالابراهيمية التوحيدية التي هي ” نظرية التاريخ التوحيدي”، هي نظرية رؤى مستقبلية، وليست آنية فقط، وهذا مايمنحها مرونه وشمولية ابعد من النطاق الاني والقائم والمحدود بالوقائع والثبوتيات.
ينطوي الاسلام عموما على ” رؤية مستقبلية ” للتاريخ، احداها هي رؤيا ” المهدي صاحب الزمان الغائب”، وفي مناخها يوضع كتاب ” الجفر” كمثال. والامام الثاني عشر الشيعي هو المهدي المعروف والمعتمد بالنسبة للشيعة الامامية، بينما توجد رؤى مهدوية اخرى، غير شيعية، وبناء على الحديث المنقول عن النبي محمد/ ص/ فانه ” لايصلح آخر هذه الامة الا بما صلح به اولها “، وكل هذه مظاهر دالة على ان روح الثورة الكبرى ليست ميتة، وان مايقوله الاستاذ الكاتب عن مساهمة قضية، او وجود المهدي، قد جعلت المسلمين الشيعة خارج الثورة والسياسة، غير صحيح، فالمهدوية اينما وجدت، لعبت دورا ثوريا، وابقت جذوة الثورة والحلم بها قائمة. اما شيعيا فانها ادت الى عزل الشيعة عن الدول والحكومات المتعاقبة الطاغية، ومنعتهم من منحها الولاء، وهذا الموقف بحد ذاته، هو موقف ” ايجابية السلب”، وهو اكثر المواقف التي يمكن ان نتخيلها في ظروف الانهيار والتراجع الشامل، الذي مر على الامة خلال قرون التردي والتراجع، منذ سقوط بغداد عام 1258فاما الحديث عن الثورة في تلك القرون، فهو افتراض غير عقلاني، ولايتفق مع الممكنات التاريخية، ولا مع الظروف المعاشة اطلاقا، الا اذا اعتبر الكاتب التشيع مذهب رضوخ، وبعد عن الثورة على الطغيان، الامر الذي لاتؤيده وقائع تاريخ الشيعة، وتاريخ ظهورهم بتياراتهم المختلفة، فتاريخ التشيع هو تاريخ الثورة المستمرة، عندما كانت المنطقة في حالة صعود وحياة وحيوية، اما حين تراجعت وانهارت وانحطت على العموم، فان امكانيات الثورة هي الاخرى تراجعت وانحطت، وصار المطلوب شيئا واحدا، هو الحفاظ على الحد الادنى من جذوتها، او بقاء عالمها، ولو بالحد الادنى، وهذا ماحققته المهدوية عموما، وفكرة المهدي الغائب لدى الشيعة خصوصا.
ليس هذا وحسب بل ان هذه الفكرة ابقت على جذوة المعارضة السلبية من ناحية، ومن فكرة الثورة المستقبلية ايضا، ف ” الظهور ” يعني الثورة الكبرى، التي تدخل امة الاسلام في طور اخر مختلف، حيت ” القران الجديد ” او ” التفسير الجديد للقران “، ان مايشابه هذا القانون، نجده في الماركسية كمثال، اذ هي تنظرالى التاريخ من وجهة نظر المستقبل ايضا، وتقول بان الثورة حتمية، الاانها تنتظر ” نضج الظروف التاريخية “، و” توفرالقاعدة المادية للثورة التي يولدها ويحتمها الصراع الطبيقي”، وهذه النظرية هي الاخرى، تتهم بالانتظارية والسلبية مع انها تقول بانها تعتمد على قراءة التاريخ علميا وثوريا.