سليم البصون
كان القطار السريع ـ كان يسمى هكذا ـ ينهب الأرض .. يقطع الطريق في وحشة الليل وحلكته من بغداد إلى البصرة .. كانت مركباته مكتظة بالناس وكأنهم بضائع مكدسة. لولا مظهرها الخارجي لبدت ضمن قافلة عربات البضائع التي تجرها ماكنة القطار. لم يكون القطار إلا مركبة واحدة درجة أولى ، اشغل احدى غرفها احد “الكبار” ـ هكذا اصطلحنا ان نسمي صاحب الجاه أو المسؤل ـ ومعه عائلته . ومن مركبات الدرجة الثانية اثنتان كان البعض من غرفهما خاليا ، في حين اشغل البعض الأخر عدد من الأسر الميسورة أو المتوسطة ..
لم يكن يلفت النظر في احدى غرف مركبتي الدرجة الثانية سوى شخصين .. كانا فتاة وشابا . بدا ان سن كل منهما لم تكن تتجاوز الخامسة والعشرين . كادا ان يكونا متشابهين في الصورة .. لولا ما تتميز به الفتاة ـ كأنثى ـ من ملامح دقيقة ، وأمارات هادئة ولكنها لم تستطع ان تخفي الأنوثة الطاغية التي بدت وكأنها تتفجر ، على الرغم مما ترتديه من ثياب بسيطة ساذجة تخفي ولا تظهر.
كان الفتى إلى جانبها، بادي الاضطراب ولو سعى إلى الإخفاء. كان ينظر بين لحظة وأخرى إلى الفتاة، وكمن يهم بالكلام . كأنما تريد شفتاه ان تنفرجا عن كلمات تكاد ان تقفز من طرف لسانه ، غير انه ما كان يجمع يأسه في زوره ليهم بالحديث حتى يحجم كأن في فيه ماء . فلا هو بقادر على قذفه لينطق فتيبس غلته، ولا هو يستطيع حبسه والصك على شفتيه مخافة ان يختنق ، قبل ان ينفذ ما أقدم عليه ، وما ترك أهله لأجله ، في ظلمة الليل هذه .. كان شيء .. في نفسه ، وكان هذا الشيء كبيرا .. خطيرا .
ترى ما الذي دعا هذا الشاب وهذه الفتاة ،.وقد بدا من مظهريهما إنهما من سواد الناس ، هؤلاء الذين يكدون ويكدحون ، ان يأخذا مكانهما في عربة الدرجة الثانية ، وان يختليا في غرفة واحدة .. أتراهما في رحلة عسل ؟ لا يبدو هذا أبدا، أتراهما في سفرة غرام .. وهذا لا يبدو أيضا ، فليس هناك نأمة تشير إلى إنهما في خلوة تريد ان تبتعد عن أعين الناس ، والرقباء لينعما بسويعات من الحب قد يكون حقا لهما .. أو بالجنس .. وهو الأخر قد يكون حقا .. وقد لا يكون .. ان كل شيء يشير إلى ان العلاقة بين الاثنين، ليست علاقة زواج .. ولا حب ..ولا جنس ..ولا رغبة في عبث.. ولكن كل شيء يدل على ان هناك سرا .. فما هذا السر؟!..
كانت ” بديعة ” تشتغل خادمة في قصر أحد الذين ينعمون بلقب ” بك ” ـ الذي كان احد مخلفات العهد العثماني ، والغي كما الغي الكثير من أمثاله ـ وكان بديهيا في مثل هذا المجتمع الذي تكون فيه القولة لصاحب السلطان والكلمة لذي الجاه ، والنعمة لرب الثراء ، والعبث لابن القصور. ان يظهر في هذا القصر من ينغص على ” بديعة ” العيش فيطاردها أو يحببه لها بالخداع والأغراء فيراودها .. وكان ابن البك صاحب القصر ، الشقي العابث ، الماجن ، يستغل مركز والده ، ونفوذه ، وواجاهته ، يأتي المنكرات ، ويقترف الآثام ، ويتمرغ في الرذيلة ، ما دامت يد العدالة قصيرة ، لا تصل إليه ، وان هي امتدت فلا تلبث ان تتقلص وترتد خائفة مذعورة من البك الكبير .
كانت ” بديعة ” تضيق ذرعا بمضايقة ابن البك لها .. كانت تسكت على مضض كمن يطبق أجفانه على القذى ، خشية ان يحدث ما لايحمد عقباه ، فهي تخشى ان تصارح أخاها ـ ولي أمرها بعد وفاة أبيها وشيخوخة والدتها ـ بما يضمره لها ابن البك ، فيقدم على الاقتصاص منه والثأر لكرامة شقيقته التي يريد ان يذلها هذا السافل . وهي تخشى ان تنفض يديها من الخدمة في هذا القصر من غير سبب معقول وجيه ومعنى هذا أنها ينبغي ان تفصح لأخيها عن العلة .
ظلت حائرة.. بين، بين .. تضرب شمالا بيمين ، ويمينا بشمال . وكأن المسالك في وجهها مغلقة، والدروب مسدودة .. فكيف تنفذ.. ومن أين مسارها.. والى أين ؟…
وكانت ليلة .. رهيبة . سوداء .
كان في القصر.. ثلاثة .. هي هذه الخادمة الطاهرة ..وهو هذا الذئب النذل .. وامرأة أخرى .. وهي رئيسة الخدم السميرة التي كانت ” قوادة “ابن البك ..
في هذه الليلة ، كان ابن البك يسعى إلى مراودة ” بديعة ” كعادته .. كان في هذه المرة يختلف عن المرات السابقة ، فقد كان في كل مرة يتحدث إليها بتودد ويتحرش بها بلين ، أما هذه المرة ، فقد كانت صيغة الحديث خشنة ..وطريقة التحرش قاسية . كان وجهه شرسا أشبه بذئب يريد الانقضاض على فريسة ..
ولم تفد توسلات “بديعة” وبكاؤها.. بعد أن فشلت جميع محاولاتها في التغلب عليه، والإفلات منه، وصد الاعتداء عنها..
كانت ” بديعة ” بين الجدران الأربعة في حجرة المطبخ التي أغلقها عليهما، أخذت تصرخ.. وشرعت تبكي . من أين يأتيها العون ؟… لا احد يسمعها سوى رئيسة الخدم. هذه ” القوادة ” التي تتصامم لتسهل لأبن البك عملية الافتراس ..
وأدركت ” بديعة ” ان لا فائدة من البكاء والعويل .. ولا الصراخ.. وجاهدت ، وصارعت حتى سقطت !..وفقدت ما نقلها من صف العذارى ..
وقضت ليلتها ساهرة ، يثقل أجفانها الكرى ..وتسودها الكآبة .. ويلفها السواد ، ماذا تفعل ؟.. أخذت تفكر وتقلب أوجه الخواطرـ وهل تستطيع ان تفعل شيئا ؟… وهل تظل تكتم الفضيحة ؟.. والى متى ؟.. والفضيحة تفضح ذاتها وان لم يكن قريبا فبعد شهور ..
وتغلب عليها الكرى في الليلة الثانية بعد ان نال منها الأرق بضع ساعات .. وكانت الليلة الثالثة، ثم الرابعة، ثم مضت الليالي سريعة.. وكانت قليلة العدد حين وجدت نفسها تجر الأذيال إلى بيتها، مطرودة من بيت “لبك” ولم تطلع أمها على السبب الحقيقي لهذا الطرد المفاجئ. وظلت تختلق أوهى الأسباب وشتى الأعذار التي أوشكت ان تصدقها والدتها لولا ان وقعت عيناها الضعيفتان .. وبعد أيام ، على البطن .. وأدركت السر .. وما يخفي السر من فضيحة يشيب لها شعر الوليد ، وما زالت بها تستدرجها ، حتى وقفت على كل شيء ، وأخذت تجهش باكية ، وكادت ان تفقد صوابها لهول الصدمة وخطر الفضيحة ..
وسكتت الأم، وران على المكان صمت رهيب.. صمت المقابر في الظلام .. وشق الصمت انتفاضة الأم ..
ـ وأخوك ؟..
ـ ماله ؟..
ـ ليس عنده من خيار الآ غسل العار.
لكن الأم ما كانت في ـ نفسها ـ تريد ان يغسل ابنها العار .. وإنما كانت تريد ان تسدل الستار .. خوفا على ولديها .. على ابنها الوحيد العزيز الذي يحتويه السجن المظلم، والابنة المسكينة التي يضمها القبر الأسود.. وقد يغطيها تراب !..
وبكت ” بديعة ” ولاذت بحضن أمها : اخبريه يا أمي ، واتركيه يقتلني كي أستريح ، وليثأر للعار من الجاني النذل .
وأخذت الخواطر تراود الأم ، بشتى المقاصد وبمختلف الأشكال .. وفي كلها كان الدم أمام عينيها..
كانت ” بديعة ” قد أقنعت شقيقها، وكذلك فعلت أمها ، بأنها طردت من الخدمة بسبب من مضايقتها وشتمها والاعتداء عليها بين وقت وأخر بحيث باتت لا تحتمل ذلك ولا تطيقه . وبدا هذا السبب عند هذا الشاب ذي الكرامة ، سببا مهما ومقبولا .. فسكت .. وظنه الحقيقة، فما بحث عن حقيقة أخرى..
وظل الحوار قائما بين الأم والبنت، وظلت الآراء تتبادلها هذه مع تلك، وتلك مع هذه. وكان المغرب، ومغرب الشتاء مظلم وقاس، وجاء ” فالح ” اخو ” بديعة ” ودلف إلى الداخل. وما ان رأته ، حتى نهضت ، ولاذت به ، وأخذت تجهش ، وتئن وتتوجع .. صرخت : ـ شرفك أهين يا ” فالح ” كرامتك ديست ، اغسل العار امح الشنار .. الذئب افترس شرف شاتك الوديعة .. بقيت حية .. وبلا شرف .. فاقتلني يا فالح.. واقتله ..
كاد ” فالح ” ان يجن وأمسكت به والدته فرمى بشقيقته أرضا .. وأخذت الأم تروي تفصيلات الفضيحة . ولكنها توسلت إليه ان لا يمس أحدا بسوء ، وان يسدل الستار على الفضيحة الشنعاء . فان العاقبة ثلاث ضحايا .. البنت التي تقتل، والجاني الذي سيقتل.. والقاتل الذي سيسجن.
وسكت ” فالح ” وبدا كمن هدأ واستجاب لتوسلات أمه .
وكان في خاطره، شيء.. رهيب
ـ أريد ان أخذ “بديعة ” إلى البصرة ، لتحل في بيت ” فلان ” ـ احد أقرباء العائلة ـ بضعة أشهر ، لننسى الفضيحة وتنسانا .. وعسى ان نصلح الأمر ، ونرأب الفتق ..
ما كان للأم ان ترفض ، وان بدت غير مقتنعة .. ولكنها اوحت لنفسها بصدق نيته .
وصل القطار محطة البصرة ضحى .. واستقل ” فالح ” وأخته سيارة صغيرة من المحطة إلى المدينة ، ثم إلى ما خلف المدينة ، وما بعدها ، من بساتين قريبة إليها ، يعرفها حق المعرفة ، فقد عاش في البصرة وعمل في بساتينها حينا ، وفي احدى هذه البساتين المنزوية نفذ ” فالح ” حكمه في أخته .. لا عارضت ولا انتفضت .. وإنما استسلمت راضية، مؤمنة بان مصيرها كان قد تقرر في تلك الليلة التي فقدت فيها شرفها.. وتمتمت : ـ ولكن إياك ان تترك الجاني ، حرام ان أموت ويحيا هو .. حرام ان يعبث بغيري من بنات الناس .. اقتله ان لم يكن ثأرا لي ، فإنقاذا لغيري .
عاد ” فالح ” في اليوم التالي إلى أمه وابلغها النبأ.. وذيل النبأ .. نبأ ان قتل شقيقته ، وذيل النبأ ان صمم على قتل ابن البك .
ولم تعترض الأم على ما انتوى ان يفعل .. فقد قتل شقيقته .. وحلت المأساة .. فلماذا لا يعجل الخاتمة..
وبمسدسه كتب الخاتمة حين سنحت له الفرصة بعد أسبوع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في مجلة صوت العراق بتاريخ 28 تشرين لأول 1950
بقلم المرحوم سليم البصون