ابتسم
……………… ………… ………
كعادته، يوزع ابتسامته الحلوة، البريئة من كل تصنع. ليس لديه سوى ابتسامة واحدة، الابتسامة نفسها، يفشيها سماحة في وجهك.
اهي عادته، ربما طبيعته؟ لا يهم، الابتسامة اهم.
حتى لو صادفك ليلا في شارع مظلم، سيبتسم لك! نعم لا تستغرب، سيبتسم لك ولو جئت تسلبه الفرح!
ستخجل من ابتسامته.وتعتذر منه و ربما تتوسل العفو،لكنه سيبتسم لك و يعتذر هو منك،ولن يفارقك الخجل من نفسك،كلما تذكرت ابتسامته،او لاقيته وابتسم لك،حتى في منامك سيبتسم لك.
-كيف حالك؟تساءل جاره صاحب البقالة.
-بخير و الحمد لله. وابتسم!
لم يسمع منه يوما غيرها.أو تذمر،أو اشتكى من ضنك العيش،كما لم يطلب حاجته منه أو من غيره أو من اي كان!وربما بات ليله جائعا!
يعيش مع زوجته،بدون اولاد،لا أحد يعرف ان كان العقم منه أو منها.
خيٌرها ببن العيش معه،أو تسريحها باحسان و معروف وابتسامة،لكنها رفضت.فابتسم لها!
يعمل حمالا، عمل يكسب منه القليل، وكلما اتم عمله ودفعت له اجرته يمسكها ويبتسم.
لم يعترض يوما على مبلغها كثر أو قل!
كل صباح يتوجه الى سوق المدينة،يفرغ بضائع التجار،أو يشحنها.لا يلقي بالا لزملائه وهم يتلكؤون.البعض منهم يستغل صدقه و تفانيه في العمل فيتماطلون تاركين العبء الأكبر عليه،ويتعمدون التثاقل لربح دقاىق راحة،اما هو فلا يرتاح قبل ان يتم عمله،لكنه يجد راحته،و يبتسم لهم،ولا يشعرهم بأنه مستاء من غشهم.لم يساوره يوما شعور بأنه ملاك،وان غيره الشيطان،على سجيته بلا تكلف ،سريرته نقية لا تشوبها شائبة،لا يفعل ما يفعل طمعا في ثواب،أو مخافة عقوبة،هو هكذا،لم يسال نفسه لما فعل هذا،أو لما تجنب فعل ذاك،هو قطعا لا يتكلف، حتى ولو لم يدرك جوهر تصرفاته،لكنه بكل تأكيد يجد حلاوة أفعاله في نفسه،ورضاه.
اذا رآه الصغار ركضوا نحوه،فيخرج من جيوبه الحلوى ويوزعها عليهم ويبتسم لهم.سُنة لم يغيرها يوما،فللصغار حقهم المعلوم من اجرته يشتري لهم به الحلويات.ولا ينقص من حقهم ولا دينار حتى لو نقصت اجرته،حقهم ثابت لا ينقص منه فلس.لو صادفه يوم أجدب، بلا عمل،ولم يكن معه ولا دينار،خجلا منهم وكي لا يلاقيهم بيد فارغة،يسلك طريقا مخالفا لخط سيره المعتاد،أبعد، واطول منه…؛ في اليوم الذي يلي يُبكر حتى يظفر بعمل،مهما كان،و فور تلقيه اجره،يشتري المعلوم من الحلوى،وكأنه طفل صغير يتلهف،يتعجل رؤيتهم،ليكفر عن تقصيره بالأمس!
-أسرع إلى بيتك،أسرع زوجتك تطلبك،يبدو أنها مريضة
-لكني تركتها صباحا في صحة وعافية!
وانطلق ركضا.لا يلتفت لأحد،لا يبصر غير الطريق ولا شىء غيرها،اظلمت الدنيا في عينه.ماذا لو أصابها مكروه،ماذا سيفعل بدونها،كيف سيعيش،لم يخطر بباله يوما ان تغيب عنه،كانت مثله بلا أهل،كانت كل أهله،وكان هو أهلها.
الدقائق دهرا،والطريق سفرا! لأول مرة يحس ان المدينة كبيرة و مزدحمة شوارعها، و الأصوات والضجيج،والمطبات،والحفر،وهو وحيد،بلا سند،بلا أهل،بلا ولد!
دفع الباب بكل قوته،دخل الغرفة حيث كانت مستلقية و بصرها شاخص في السقف.لم تكلمه لكنها حاولت ان تبتسم له وسبقتها دمعة سالت على خدها،فكانت سهما اخترقه،ضمها قبلها،عانقها بحرارة وقوة
-مابك؟وغلبته دموعه.
خرج،يلتفت في كل تجاه،توجه لجاره صاحب البقالة،ترجاه ان يطلب الاسعاف،لم يكن عنده رصيد،توجه لغيره،طلب له الاسعاف؛ تاخروا في القدوم،ولما وصلوا كانت قد فارقت الحياة!
لاحظ برودهم ولا مبالاتهم ،كانوا يقلبونها كأنها شاة،،لأول مرة يخرج عن طوعه،انفجر،صاح فيهم،شتمهم،تعارك،مزق قميصه،بكى بحرقة كالاطفال،صارت دنياه خواء.احس اليتم،… صار يتيما.
يوم دفنها،دفن روحه معها، من يومها لم يبتسم يوما، بعدها،كره الناس و فقره،وعوزه،وهوانه،لم يمشِ في جنازتها غيره والإمام وبعض الصبية،عند رجوعه من المقبرة،لم يقدم له العزاء سوى خمسة أو ستة أفراد!
كأنهم يوغلون خنجر الاستحقار، أقام يومها جيران له عرسا لإبنهم، عرسا صاخبا،طرب،ورقص،خيالة وبارود،وتفاخر،وولائم خصصت لوجوه المدينة،فتوافدوا يتصنعون الخيلاء والتأني، ويتقدمون على مهل الى موائد الطعام، كأن لا رغبة لهم في صنوف المأكولات،وإن كان الواحد منهم لولا الرياء لهجم هجوما كاسحا فأكل الطري واليابس!
وأما من هم أحَطُ شأنا وأدنى منزلة،رواد الزردة، فتدافعوا كأنهم يساقون الى محشر.
لم يفهم تجاهلهم جرحه،حزنه،لماذا استصغروا مصيبته،بخلوا عليه حتى بالمواساة!
لم يكلفوا نفسهم جبر خاطره!
إنه لم يفقد نعله،أو كمشة دنانير،أو خرافا،أو بقرة،أو كلبا…لقد فقد كل شيء،سلبه موتها كل شيء،… مزقه اشلاء.ً
-هذا حال الدنيا،فَرِحٌ وحَزين الى يوم الدين!
بلغه أنهم قالوها لمن جاء يخطرهم بمصاب جارهم-المعدم-ونهروه في استعلاء،واضافوا
-إذا نوى بيع بيته،اشتريناه،وإن كان يهمك أمره،بلغه ما سمعت،و أفضل لك ان تعجل انصرافك عنا إذا كنت قد تناولت طعامك؟
تجرع ايامه علقما،اوحشته الوحدة،فاستأنس ذكراها،يتآكل قلبه ويتحجر…؛ كل مصائبه بعد فقدها،وإن اوجعته لكنها تتلاشى،وتهون،إلا أفولها، كلما مر يوم إلا وزاده وجعا،بل أوجاع.
لم يعرف كيف توقف عند بائع الدخان،امتدت يده للسيجارة،اشعلها،اخذ نفسا عميقا،حتى أصابته نوبة سعال حادة،لقد مر زمن طويل لم يدخن،كانت رحمها الله قد اعانته في الاقلاع عن التدخين.
اليوم دخن كثيرا،وشرب حتى الثمالة،عندما رجع الى بيته-حتى وهوثمل- وجده مظلما،كئيبا، كما وجدها في كل ركن،وزاوية،…لم يفارقه طيفها ولا لحظة.ندم لانه لم يكن يقول لها أنه يحبها.وأنها كل دنياه،وأغلى عليه من نفسه.يعصره ندمه،يفتته،يراوده شعور ثقيل،يردد ،كم كان بخيلا،ولم يفصح لها عن مدى تعلقه بها،وأنه بدونها فقد عُتُوَه،منها كان يستمد كبرياءه،لم يكن يلتفت لما عند الناس،من مال،أو أملاك على كثرتها ،سيارات،بدل،وجواهر،كل ذلك لا يساوي مجرد نظرة منها،أو رقة لمستها.
لكنه يواسي نفسه ويقول بانها كانت تعرف حقيقة حبه لها.
الكل مقته لأجلها،واكثرهم اجتهد بكل وسيلة ليفرقها عنه،وحاولوا كيدهم،بالمال،ذهبا فضة وياقوت،مساكن ابهة وبيوت،ومراكب فخمة،ويخوت،إغراء،وإغواء،و
تهديد بالموت…لكنها احتقرتهم حتى يئسوا،ورغم شظف العيش،و الحرمان،تمسكت به،ولم يزدها سعيهم الخبيث الا تشبثا به،وافتخارا به.وزادهم ذلك كربا،واستوطنهم الغم
عندما استيقظ صباح اليوم الموالي،وجد أنها كانت قد حضرت له شخشوخة، طبقه المفضل،لم يتمالك نفسه،وراح يضرب رأسه بكفيه،تذكر لما كانت تقول له أنها تخشى ان تموت وتتركه وحيدا،وتحاول ان تخفي دموعها عليه.كأنها كانت تحس بقرب أجلها.
خرج إلى فناء المنزل،قابلته العنزة،عنزتها اشترتها له،لأجل حليبها،فهو يحب القهوة بحليب الماعز،كانت وهي تحلبها تغني لها وله.تهيأ له أنه سمعها تغني،اخذ سيجارة،قبل ان يشعلها،تذكر لما طلبت منه تركها ما دامت على قيد الحياة.
خرج من البيت،اليوم صار شخص آخر،غير الذي كان،لم يبتسم،لم يسلم على أحد.توجه الى المقهى،طلب قهوة،شربها على عجل مع سيجارة،لم يدفع ثمنها،تعمد ان لا يدفع،توقع ان يطالبه صاحب المقهى ثمنها ليكون ذلك سبب يقيم لأجله معركة يشفي غليله من أي أحد يحاول ان يتدخل،لكن صاحب المقهى لم يطالبه بشىء،ولزم الصمت!
لم تغب شمس ذلك اليوم قبل ان يفرغ غضبه في كل من اعترض طريقه،أو سأله شيئا،أو أيٌ حاول ان يكلمه؛و أكثر من صب عليه حمم غضبه من تبسم له!
كل المدينة غدت في نظره عدوة،وأهلها أعداء،من يومها صار عابس الوجه،قاطع طريق يسلب كل من يصادفه ليلا ، سكير، لص،مجرم، لم يسلم من بطشه الا الاطفال!
عبد الرحمان صديقي.الجزائر