إنها الأحزان يا صادق.
تلك التي تترك نورها الخافت وعتمتها الخانقة في ثنايا الروح، وقناديل المستقبل.
أنا مريانا، هل ما زلت تذكرني؟
أجلس منذ رحيلك كل يوم على حافة المساء أراقب السماء وهي تسقط نجومها نجمة نجمة لأهرول إليك، لأطالبك بالعودة، بالنهوض سريعاً، باستكمال مشوار لا يكتمل بغيابك …لقد أضعفتني وما عدت قادرة على المسير …هكذا وبكل بساطة أعترف لك أنك كنت قوتي …. ولكنك رحلت بها وبكل جميل كان يتلألأ في حياتي.
وأكاد أجزم أني لا أعرف إن كان الليل يختبئ في قبرك أم هو قبرك الذي يختبئ في الليل… ولكنه الوقت يا صادق… إنه يفقد ثوانيه ودقائقه وعقاربه ويفلت من قيود الزمن ليقع أسيرك وحدك.
قل لي ، لم تحبس السماء دموعي ألتزداد غيومها رقة، أم ماذا؟؟
أنا لست “حزينة”، أتكفي كلمة واحدة لتختزل كل المشاعر والأحاسيس المكثفة والمتشابكة والمتصارعة في نفق مظلم؟
كيف ترحل قبل أن تسلمني طرف الخيط الأبيض الرفيع المعقود في الأفق؟ هناك على مرايا عينيك يا معلمي … هناك… كُتبت آخر القصائد وبكى الرب… وكنت أنت الشاهد الوحيد على دموعه…
غاب وجهك ،وجه الصباح الذي يضيء لي الشموع…
أخبرني … من سيرفع لي المدن لأرى الصلوات والمسابح المنسية تحتها… كم انتظرتك أن تلملم أصابعك وتجمعها لتقف من جديد… لكنك خنتني … وبقيت نائماً رغم محاولاتي الكثيرة لاستفزاز الحياة في تجاعيدك العتيقة…
لا أعرف لم كل تلك الأوجاع المتقدة تنتظر الليل لتتطاير في الأفق… إنه ليلك على الرغم من حزنه مضيء … أو ربما هي لوعتي … كلما ازدادت تكاثرت النجوم في السماء؟
انهض يا معلمي انتفض من قبرك امسح التراب… أنهض بكفيك الشمس فقد طال نومها … عُد للمدن التي تركتها كي تدوس أعمدتها الضباب الكثيف وترتفع فوق البحار….
أرى الآن عينيك الدامعتين تتكاثران في السماء… تمطران لي مطراً دافئاً براقاً معطراً يشبه حقيقتك وحدك … منذ رحلت تغيرت خارطة المدن التي وطأتها قدماك … أتعرف أني رأيت المساجد والكنائس تهتز اهتزازاً شديداً وتتصدع مداخلها من شوقها إليك… وكانت الرياح في الأفق الأعلى هناك فوق أجنحة الملائكة تناديك… لم لا تستجب لندائها؟
وعدتني أن لا تتركني وحيدة …وأذكر أني قلت لك إن مت مرة سأميتك مرة أخرى من شدة حزني عليك…
ومع ذلك لم تكتف بميتتين..
فأنت تغادرني وتعود… تغادرني وتعود …كالنسمة الهاربة تعود محملاً بهشاشتي كلها…
أجلس الآن وحيدة أحمل بيدي كِتْاباً كنت قد أهديتني إياه في عيد ميلادي الثلاثين … يومها طلبت مني أن أحتفظ به وأن لا أفتحه قبل أن تغادر الحياة…
وها أنا الآن أتصفحه…
جاءت المقدمة جملة واحدة:
أَنَا الدِمَشقيَّة الْبَيْروتِيَّة البَغْداديَّة اِبْنةُ قُدس الأَقداس…
ثم فتحت الصفحة الأولى فخرجت منها امرأة فلاحة ممتلئة الأطراف تحمل على كتفها الأيسر سلة تفاح حباته كبيرة وما يزال دمع الندى ينبض عليها.. رأيتها تركل جندياً وتشتمه وهو يحاول سلبها السلة سمعتها تقول:
ارحل من أرضي… فأَنَا الْعَاقِر، حُبْلى اليوم بفاكهة تشتهيها مُنْذُ دَهِر …
قلبت الصفحة بسرعة وأنا أرتعش فسمعت أَصْنامَ “مدام توسو” تَتَعارك مع بعضها البعض .. عركة تشبه بداية الحرب الأهلية في بيروت…
تركتهم غاضبة وطويت الصفحة لأَرَى عبد الناصر واقفاً يُدْلِي بِخِطابِه مِنْ أَعْلَى شُرْفَة قَصْر “بيكنغهام”…
ولكنه كان مثلي وحيداً لا أحد يسمعه … صفقت له بدافع الشفقة…
ثم هربت منه أو من وحدتي فيه .. لا أدري…
وحين فتحت الكتاب عند منتصفه تدفق منه نَهْر دِجْلَة عَلى أًكْتاف “واست منستر”.. فأخذت نفساً عميقاً جداً.. وابتسمت قليلاً وأكملت جولتي في طيات الكتاب… فوجدت نفسي في شَارِع “أوكسفورد”هناك حيتني واجهات شارع الحمراء في بيروت… ماذا أتى بها إلى لندن؟؟؟ لم تكن محروقة ولم تكن مكسورة… كانت كما تعرفها أنت في الستينيات بكامل جاذبيتها…
ألقيت السلام وقلبت الصفحة فرأيت أَبا فِراْس الْحَمَدَانِي، وأَبا نَوَّاس والسَّيّاب والْجَوَاهِري يَعْتَلونَ مِنَصَّة مجلس اللوردات… وكان الهدوء يحتل المكان … فقد كانوا كلهم بكم….
هكذا إلى أن وصلت للصفحة الأخيرة …كانت عروقها تَنْزفَ وتهمس بصوت يشتهي الموت:
يتيمة أَنَا ارحموني … يتيمة أنا … ارحموني … أنا الدِمَشقيَّة الْبَيْروتِيَّة البَغْداديَّة اِبْنةُ قُدس الأَقداس…
أتعلم يا صادق،
منذ رحلت والشمس حزينة حزناً مهيباً حتى أني رأيت بيادر من القمح تنسكب منها على البحار .. هل ستعود حين تنمو السنابل فوق الأمواج وترتفع برؤوسها نحو السماء ؟
يا الله كيف يبقى رغيفك عالقاً في يدي؟
كنت وستبقى رجلاً من ماء…
لا رجل مثلك كلما خطى خطوة تسقي قدماه التراب ..
حين رأيتك آخر مرة كان كل ما فيك يبكي ليخرج الحقيقة صافية.. لا عيب فيك يا صادق سوى ملوحة بعض الدموع العالقة على أطراف الكلمات. لا أعرف لمَ كنت مقتنعة أن روحك وحدها ولا روح غيرها تستحيل ليلاً إلى شعلات صغيرة تتراقص لتضيء القناديل الساهرة…
وها هو الليل يشتد محاولاً أن يطبق على أنفاسها وعلى ذاكرة الأماكن التي جمعتنا… ولكن الحنين إليك يوقظ المدينة بأسرها….
إنها لندن التي جمعتنا … كيف أهرب من مطرها الذي لا يتساقط إلا حين أسمعك تناديني…
ومنذ رحلت وحبات المطر لا تغسل إلا وجهي… تخترق كل الحواجز لتمطر عليه أو ربما منه…
أتعرف يا صادق أني كل يوم أفتح باب بيتي حافية وأهرول في الشوارع وأعود منهزمة مكسورة …
مر دفنك ولم أجرؤ على العزاء … أنت تدرك خبث النساء قد يتفاقم ساعة الحزن … وكنت أعرف تمام المعرفة أن زوجتك الأرملة عزيزة ستترك فجيعتها جانباً وستتفنن في طردي … فهي تكرهني لقربي منك ولم تكن تريد أن تفهم طبيعة صداقتنا….
معذورة…. إنها أكبر منها ومني…. لذلك فضلت أن أذهب إلى الكنيسة بمفردي وأصلي…
على الرغم من نسياني ، منذ زمن بعيد ، طقوس الصلاة كلها….
لم يكن في الكنيسة سوى امرأة عجوز تجلس أمامي… كان شعرها الفضيّ مغزولاً بضفيرة مجدولة بعناية إلى الخلف .. تضع نظارات سميكة سوداء وتبدو مكسورة قليلاً عند الطرف الأيمن وتحمل في يدها كتاب صلاة صغير … تحرك شفتيها وتتمتم بكلمات ليست مفهومة… تركع ثم تقف وبعدها تجلس لتعود وتركع من جديد … دخت وأنا أتأبعها.
ولا أعرف لماذا شعرت بأني أعرفها منذ زمن طويل…
وكنت على وشك أن أطلب منها كتاب الصلاة كي أقرأ للرب، مقطعا أو مقطعين، جملة أو جملتين، فيرحمني، ويحملني على أجنحة رحمته الظليلة، ويعيدني إليك.
لكن العجوز ما لبثت أن رحلت وتركتني أحدق في السقف محاولة أن أستعيد الصلاة التي كنت أتلوها حين كنت صغيرة بصحبة أمي، قبل أن أعدو شحيحة الدعاء، وأتمرد على المعتقدات كلها… وأنت يا شيطاني الجميل ساهمت في تمردي…
اليوم كم أحتاج للرب الذي خذلناه معاً…
وكم أحتاج إليك…
يا رب أرفع ضعفي إليك فلا تعده إليّ
يا رب أرفع حزني إليك فلا تعده إليّ
يا رب أرفع ظمأي إليك فلا تعده إليّ
يا رب أرفع قلبي إليك فلا تعده إليّ
يا رب أرفع نفسي إليك فلا تعدها إليّ
صليت وبكيت كثيراً ولكني خرجت من الكنيسة أكثر ضياعاً من لحظة دخولي إليها وعدت إلى غرفتي لأجلس قرب النافذة وحيدة أنتظر عودة معلمي…
لا أعرف لمَ كنت أنتظره .. مع أني لم أسمع بميت انتفض بفعل الشوق فلملم عظامه ورمم لحمه وفتح باب قبره متناولاً باقة الورد اليابسة التي علقت عليه ، ليعود بها فيقدمها لصديقة تنتحب في غيابه…
بقيت أنتظره إلى أن جاء الليل متنكراً به … جاء مترنحاً وراح يتكسر رويداً رويداً فوق البيوت …ورأيت ظلاله تعرج في الشوارع الضيقة… فتميل على الأنهار والأشجار والساحات والأوراق الضائعة لتطفأها..
أطفأ ليله المدينة وتناساني.. ألألمح في الكحلاء الشاسعة ياسمينة واحدة تطالعني بحيرة؟
كانت من شدة العتمة المحيطة بها بيضاء حد التلاشي… كانت دمعة رقراقة… أكثر شفافية من الدموع ..
إنها دمعة معلمي .. عالقة لا تسقط أبداً…
هي دمعة فواحة … عطرها يؤذن بصباحات جديدة ، لا بد أن تأتي… لا بدّ أن تعود…
مات معلمي… نعم مات … وأنا اليوم أبحث عن جناحين جديدين.. عن انتماء ما… عن نبع آخر أغرف منه ضوء الأيام القادمة…
أبحث عن وجه من ماء ونور… عن عينين تذرفان الشوق لآلئ من برد ونار.. عن يد تمتد لتمنح القليل من الصفاء…
كان الليل يعقد خيوطه خيطاً خيطاً ليغزل ذكراك فوق ضباب المدينة فيضبط أطرافها حتى يتلاشى السواد….
مرت الأيام ولم يعد ليل لندن ليلاً ولا ضبابها ضباباً … لقد بزغ النور برحيلك وأصبح ليلاً ناصعاً كحفنات الثلج … أنت من علمتني أن لا شيء ، لا شيء ، يبقى سوى الحب….
وها أنت تبقى شامخاً مارداً محلقاً في روحي.
كم أحببتك يا صادق ولا أجد تفسيراً لمحبتي لك سوى المحبة .. كمن لا يستطيع وصف البياض إلا بالعودة إلى نقاوته إلى طهره إلى ملائكيته … حين ألتقيتك منحتني جوهرا … أيقظت الهاً صغيراً ينام في صدري ..ولا يستفيق إلا بالنور …ولا يرتقي إلا بارتقاء المحبة… ولا يزداد إلا بازدياد صفائها ..
أنا مريانا يا صادق أما زلت تذكرني؟
جئتك مريدة أبحث عن حقيقة لا أحد يعرفها غيرك …
كيف رحلت وتركتني أتخبط في وحدتي.. لم أنت صامت هكذا ؟ ألأنك تجلس الآن برفقة دي أتش لورانس وأودن وفرجينيا وولف؟
أم أنك مع أليوت وتتناقشان بقصيدته التي لطالما كنت ترحل معها وتعود متجدداً ؟
ها أنا ومن شدة وحدتي أغار من الأموات ومن رفقتك لهم… وينتابني شعور غريب… أشعر بأنكم أحياء وأنا وكل من يقطن الأرض أموات نتلاشى في اللا شيء…
لا أعرف لم تعلقت بك يا صادق ولمَ صادقتك بكل ما أوتيت المحبة من ربيع مع أنك تكبرني بثلاثين سنة على الأقل…
لا بد أنها المعرفة المطلقة ..خيمة المريد الذي يعدو ويشقى ليبقى في ظلها..
وقد يكون أيضاً وبكل بساطة حرماني من الأب والأخ ونشأتي في ميتم الأمان في بيروت الذي إن كان يخلو من شيء فهو معاني الأمان وكل مشتقاتها…
أيام بيروت كانت عمراً آخر حزيناً مهمشاً مشبوهاً ضائعاً لا أرغب بالرجوع إليه. وكنت سأبقى أسيرته لو لم أتفوق بدراستي وأهاجر إلى مدينة الضباب التي لم تفتح لي أبوابها الصلبة بسهولة.
جئتها منذ خمس سنوات مراسلة لقناة فضائية وبقيت فيها ولن أرحل عنها أبداً..
تعبت من شدة الحزن عليك يا صادق… وأصبحت دموعي عائمة في دموعها ..
شعرت وكأني نافورةٌ من ماء تفيض في حضن أشجار التوت والنارنج والياسمين… وكان رأسي المبلول يدور ويدور والأرض تهزأ من ضعفي..
نمت ولا أدري كيف نمت … ربما نمت من عجزي… أو من خوفي…أو هرباً من واقع ما عدت قادرة على احتماله… لقد عشت في غيابك الفراغ المطلق
ولا شيء كان أقسى منه على نفسي…
وكان النوم فارغاً أيضاً… لا أحلام ولا صور ولا أصوات… بات الفراغ يتسرب من النهار إلى الليل ومن الليل إلى النهار…
وكدت أصاب بالجنون لولا زياراتي المتتالية للكنيسة وتلك العجوز التي كانت تجلس دائماً في المقعد الأمامي وتختفي قبل أن أقترب منها، أو أسألها أي سؤال من تلك الأسئلة الفجة، غير المنطقية، التي تتكاثر في ذهني عند رؤيتها. أسئلة مثل: هل عملت بائعة للخضار من قبل؟، هل أنت الساحرة” بنيتا” الموجودة في كتب الأطفال؟، أو هل إسمك: الجدة سراب؟
بعد شهر من دائرة الفراغ المعلقة بين النهار والليل، وكنت غارقة في أفكاري، وأجلس في صالة بيتي غير المرتبة، غفوت لأجد نفسي أدق باب حلم غريب، شاهدت نفسي فيه واقفة أمام بوابة حديدية عريضة وعالية بدرفتين وسمعت صوتاً آتياً من خلفي يناديني مرة، ومرتين وثلاثا :
يا مريانا.. يا مريانا.. يا مرررريم.
كنت أعرف ذلك الصوت جيدا، أعرفه من وداعة نبراته، وأنه الصوت الذي كنت وما زلت أتوق إلى سماعه في أي لحظة. صوت قلبي، صوت مالك قلبي … استدرت بسرعة لأراك راكباً على جحش أبيض صغير وعلى جانبي الطريق فلاحون يحملون أغصاناً من شجر النخل ويلوحون بها ثم يرمونها أمامك على الأرض ليدعس عليها الجحش بثقة تنافس ثقة الملوك..
سمعت بعضهم يصرخ:
“باركنا يا معلم”
وكنت ترفع يدك اليمنى بخفة وتلقي عليهم السلام..كنت ترتدي عباءة بيضاء واسعة وتلف رأسك بقماش أبيض ناصع، وتحمل بيدك اليسرى، رسالة.. تكاد أن تكون بطولك..
نزلت عن الجحش ومددت لي الرسالة…لم تضمني كما توقعت ولم تقبلني على
رأسي كما كنت تفعل في كل لقاء. لم تكن معك حقيبتك البنية التي كانت
ترافقنا في كل مشاويرنا وكنت تخرج منها دائما، كتاباً جديداً لأقرأه خلال الأسبوع ثم نتناقش به في اللقاء القادم.
كانت نظراتك جادة، جدا، صارمة، لا مشاعر يمكن قراءتها فيها، وكأنها متواطئة مع الموت وفية له أكثر من وفائها لك.
لم أجرؤ على أن أخبرك عن ذلك الشوق الحارق الذي يمزق كياني ولا عن العذاب الذي عشته في غيابك..
خجلت من ضعفي أمامك ومن الألم الذي يضخ دمه في شريان القلب …
أنظر في عيني يا صادق. ابحث عن ذلك الخوف الذي يلاحقني في كل دقيقة أتكلم فيها، عن شبح الفراق .. عن ظلك الأبيض.
أتعرف كم مرة فكرت بأن أحمل حقائبي وأسافر إلى مدينة جديدة … أتعرف كم مرة فكرت بالهروب من الواقع بدفن الذكريات تحت ضباب المدينة أو في داخله… ولكنني لم أفلح…
فأنا أُتْرَك ولا أَتْرُك … يتركني الأشخاص وتهجرني الأماكن وأنا مازلت عاجزة عن اتخاذ قراري.
كنت تبدو غريباً ، غريباً جداً .. جامداً ، صارماً .. كانت ملامح وجهك على الرغم من نقائها هابطة …
وقبل أن أفتح فمي بكلمة واحدة اختفيت من أمامي …
واختفى الجحش والفلاحون والأغصان أيضاً ..
أنا دائماً هكذا أنتهي ، وقبل أن يبدأ الحوار، وحيدة…
مشيت وعيناي متشبثتان بخيوط نسيم بعيد جداً .. إنه الحنين يا صادق روائحه تشدني إليك.. روائحه تفتح لي الطريق ولا أعرف أين تأخذني خطواتي..
كانت الأضواء خافتة… كل شيء ناعس حولي حتى القمر الذي يتوسط السماء الكحلاء كان يبدو على وشك السقوط …
مشيت طويلاً وبدأ أسفل قدمي يوجعني فقررت الاستراحة عند أول شجرة زيتون صادفتها جلست تحتها لأقرأ الرسالة:
يا مريانا
يا من أتيتني طفلة وكبرت قبل أن يكشف الصباح عن صدره للورود…
يا من تفتحت عيناك كالمرايا فوق المياه ..
فكان الحب ينادي الحب وكل الطرقات وكل انعكاساتها باتت واحدة.. يا درب الروح الوحيد… يا صفاء الصفاء..
يا من تنعس فوق كتفيك غيمة زرقاء تمطر بصمت حين يشتد حنينها…
يا من ضحكت وبكت دمشق من عينيها فنبت على خصرها زنار من ياسمين …يفوح ويفوح كالنسائم الأبدية الشاردة..
لا تخشي البكاء يا مريانا ، ابكي كي تعودَ الطبيعة ملك نفسها.. كي تتكاثر الحقائق فينمو الأخضر في البساتين..
ابكي ، كي يحملَ الحسونُ آية على منقاره ويشق بها الأفق الحزين نصفين…
آه لو تعلمين كم دمعةً منك أحرقتني… إنه التطهر .. إنها البداية..
ابكي يا مريانا ، فكلما ذرفت دمعة تتفتح من خدي الأيسر فلة بيضاء..
غني وهللي لتستريح الأرواح التائهة ولينفر من جبيني شلال مياه..
واكتبي الأشعار بلحنك الحزين فتنشدها الطيور فوق الأشجار وفي الساحات وفي الطرقات الضيقة وفي الفضاء الشاسع وفوق البحيرات.. إن الإنشاد الجماعي توحد في عبادة الله .. اكتبي كي تتشكل للمدن ذاكرة زرقاء جديدة.. كي لا تغترب الطبيعة في ظلال أشجارها ..
اغمضي عينيك طويلاً كي تسقط الملذات في جوف التربة العقيمة حينها ترتعش الأشجار وينبت التفاح الأحمر طاهراً …
ارقصي عارية من كل شيء وارتدي ثوب الحقيقة واستديري استديري استديري على وقع الطبول والدفوف وانفخي الناي الحزين كي يعود الرعاة التائهين من خلف التلال…
انفخي حزنك كي تجيش الأمواج النائمة في أعماق النفوس … أتعرفين يا مريانا أن أصوات الناي ترانيم هاربة من صدور تتألم ؟
قولي لي ،كيف حملتني إلى النور يا مريانا والآن … الآن تريدينني أن أعود إليك؟
صحوت وأنا أرتجف … كان العرق يتصبب مني وكأني خارجة للتو من تحت زخات مطر عنيف جارح .. دخلت الحمام الصغير التابع لغرفة نومي وفتحت الدوش ووقفت تحته ربما ساعة أو أكثر وأنا أحاول أن أستوعب إن كان ما عشته حلماً أم حقيقة…
خرجت من تحت الماء ومن شدة توتري نسيت أن أجفف نفسي وارتديت ثيابي وأنا مبلولة ولم أشعر بالرطوبة إلى أن وقع نظري على المرآة الطويلة المعلقة على الحائط المواجه للسرير فوجدت القميص الأسود ملتصقاً بجسدي يبرز نهديّ وكأنهما الجزء الأنثوي الوحيد النافر والنابض في جسد يحتضر.
لم أكترث لتجفيف نفسي وتبديل الثياب. التقطت بسرعة نظارتي الشمسية السوداء عن الطاولة الصغيرة المستلقية تحت شباك الغرفة العريض وخرجت أركض باتجاه الكنيسة التي كانت تبعد عن بيتي حوالي ربع ساعة من المشي السريع…
شعرت أني وصلت إلى الكنيسة بخطوة واحدة.. وكأني لم أبذل أي مجهود في المشي..
لا أعرف لمَ بدأت أشعر مؤخراً بشيء من الراحة حين أزورها ، مع أني فقدت إيماني منذ سنوات عدة، ربما من تاريخ وصولي إلى مدينة الضباب … ولكن حين مات معلمي بدأت أبحث عن كنيسة قريبة من منزلي، أتصفح الوجوه وروائح الإيمان، وأحس باقترابي من معجزة ما.
لقد اهتديت صدفة إلى كنيسة سانت بول الواقعة على تلة صغيرة في منطقة كنغزبري . كنيسة فسيحة جداً ولكنها لم تكن فجة في حلتها الهندسية ولا مزدحمة بالرخام الملون والصور الكثيرة والنقوش .. كانت بسيطة جداً من الداخل رغم جمال المبنى الخارجي وعظمته وعراقته وارتفاعه كقصر مهجور من القرن السابع عشر..
بدت لي مختلفة تماماً عن كنيسة القديسة ريتا التي كنت أزورها في بيروت كملجأ حقيقي وحيد في كل مرة تعصف بي الحياة.
لقد أخبرتني، أمي ايفون ، مربيتي في الميتم بأنها قديسة الأمور المستحيلة.
فأنا كنت أحتاج في ذلك الوقت كحاجتي اليوم لعجيبة تغير واقع حياتي .. ولا أعرف إن كانت هي من فتحت لي أبواب مدينة لندن كما أكدت لي أمي التي وبالرغم من كرهي الشديد لكل ما يتعلق بالميتم وذكرياته ، حافظت على علاقتي بها.