الدكتور زاحم محمد الشهيلي
يُعرف “التفكير” بانه رحلة العقل في البحث عن الحقيقة المطلقة للأشياء والوجود الكوني التي يسعى الانسان لإدراكها بشكل كامل بهدف الوصول الى درجة الكمال الذهني لذلك الطفل الذي يعيش في داخله والجائع دائما إلى غذاء المعرفة، ومن خلال رحلة البحث هذه يتم الكشف عن الحقائق المعرفية التي تكون الشخصية العلمية الفكرية والثقافية المعرفية للإنسان في مجالات الحياة المختلفة، وعليه تبرز عدة أنواع من التفكير منها؛ التفكير السطحي، التفكير الناقد، التفكير الابداعي، التفكير الاستراتيجي، التفكير العلمي، التفكير الارتجالي، التفكير الابتكاري المفاجىء، التفكير المجرد، التفكير الإيجابي، والتفكير السلبي الذي من ضمنه التفكير الإجرامي، لكنه في نهاية المطاف تبقى حقيقة الوجود الكوني غير معروفة لدى الجميع بشكل واضح وإنها مجرد إيحاءات روحانية تستند إلى الاكتشافات العلمية للظواهر الطبيعية والكتب السماوية المستوحاة من الموروث التاريخي الذي تتناقله الأجيال عبر العصور، بحيث اضحت كل مجموعة عقائدية أو علمية تدعي بانها تمتلك “الحقيقة المطلقة” للوجود التي في حقيقة الامر لا يعلمها الا الله الذي يمتلك صفة الكمال ويعلم الرزق، وسر الوجود، والموت والحياة، ونهاية الكون وكيفية تكوينه، والجنة والنار.
لذلك تؤكد الديانات السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام في كتب التوراة والإنجيل القديمة والقرآن الكريم على ان الوصول إلى “الحقيقة المطلقة” للتقرب من الله والفوز بمرضاته في آخر الزمان يأتي من خلال التفاني والتسابق بين ابناء البشر، الذين يؤمنون بوجود الله، في “فعل الخير” و”العمل الصالح” الذي يخدم الإنسانية جمعاء، والذي يتجسد فيه الصدق وحسن الأخلاق، والإخلاص في العمل، واحترام الآخر، وتجنب الغيبة والنميمة، واحترام القانون، والمساواة بين الجميع، وتجنب الظلم وسفك الدماء، وحب الناس بغض النظر عن دياناتهم وعرقياتهم وطوائفهم وعدم التمييز بينهم وعدم استغلال عقولهم وسذاجتهم سلبا، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والمحافظة على المال العام، وعدم خيانة الوطن والشعب فانها من كبائر الأمور، وتجنب عقوق الوالدين والسحت الحرام واكل مال اليتامى، والاهم صون الأمانة، حيث كل ما تم ذكره جعله الله أمانة في رقاب القائمين من بني البشر إلى يوم القيامة، والذي سيقود الجميع في نهاية المطاف إلى نتيجة حتمية للفوز بمرضاة الله يوم لا ظل الا ظله او الخسارة، والتي تتجسد فيها الحقيقة الإلهية المطلقة – الجنة والنار – التي يفكر ويتفكر فيها ويختلف عليها الجميع من بني البشر.
لذلك فان توقف المرء برهة للتفكير والتفكر بمقولة؛ “أنا افكر، إذا أنا موجود” للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت Réne Descartes ، الذي عاش في الفترة (1596 – 1650)، سيمكنه من ايجاد الكثير من معاني التحرر الفكري والإنساني التي تقف حائلا ضد العبودية الفكرية والجسدية التي عانى منها الانسان كثيرا في الماضي السحيق ويعاني منها اكثر في الوقت الحاضر، والتي نبذها الإسلام وحاربها بحد السيف نتيجة لإيمان الجميع بمقولة؛ “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا”، حيث كانت هذه المقولة وما قاله ديكارت الدافع والمحرك الفكري الأقوى لرواد حركة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر، والتي اعتمدت على الإسلام ايضا كظاهرة تنوير في زمن الظلام لتقويم افكارها، والتي استطاعت بعد عناء طويل ان تشق طريقها الفكري وتغير حال الشعب الأوروبي من الظلمات إلى النور، بعد ان أخذت بيده للخروج من عبودية الفكر والإنسان والانتقال به إلى فضاءات حرية الفكر والعقيدة والتعايش السلمي بين المكونات الاجتماعية، بعد ان تولدت لديه القناعة الراسخة بان الله اقرب اليه من حبل الوريد، وليس هناك حاجز بينه وبين الله في الدعاء الصادق والاستجابة العاجلة دون واسطة انسان اخر يحمل نفس العقل والفكر والعقيدة.
ان منة الله على الانسان بجوهرة العقل جعله مميزا عن بقية الحيوانات – ولقد كرمنا بني ادم -، وعليه بات لزاما على المرء استخدام العقل بالشكل الصحيح وبما يرضي الله والإنسانية في كيفية التفكير والتصرف والفعل الصحيح، حيث يستطيع المرء ان يرتقي بالعقل والتفكير إلى مصاف الملائكة المقربين إلى الله تعالى – لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة – أو ان يصادر العقل والتفكير من قبل الآخر بوعي الانسان وسذاجته وتخلفه الفكري والثقافي، والذي يعني مصادرةً للروح والإرادة الإنسانية بعد السيطرة على منظومة العقل وتوجيهها حسب الأهواء وبما يخالف التفكير الإنساني الإيجابي وتعاليم العقيدة السمحاء، والتي تعد مرحلة خطيرة في تحول الانسان من حالة التفكير والإدراك الحسي والإنساني العقلاني إلى حالة التلقين والانقياد الفكري التي تعتبر اسوء مرحلة من مراحل استخدام العقل والمنطق، تلك المرحلة التي يتساوى فيها الانسان بتفكير وإدراك اسوء الحيوانات في الارض، وبذلك يمكن القول: “ان الله لا يطاع من حيث يعصى”.
ان اسلوب تلقين المرء للتفكير بشكل سلبي بمنعزل عن العقل والمنطق، وبالشكل الذي يلحق الضرر بنفسه وبالعامة، سيجعله عرضة للانتقاد ومحاسبة الله في الآخرة والقانون الإنساني في الدنيا على الأفعال السيئة التي يقوم بها ما دام المرء يحتفظ بكامل وعيه العقلي والفكري ولم يذهب الله منه ذلك التكريم، لان الارتقاء بالعقل والتفكير إلى مصاف الملائكة والنزول الى مستوى تفكير اسوء الحيوانات سيجعل الانسان مسلوب الارادة ومنقاد من قبل الآخرين المتربصين بمصائر الناس، حيث يعزى ذلك إلى الإيمان الفطري المتوارث بالظواهر الطبيعية والروحانيات حيث تقديس المرء للأشخاص، ولذلك يجب على الانسان ان يعي وينصت بإمعان إلى النقد البناء لانه مصدر التقويم المعرفي والفكري للذات الإنسانية والفكر العقلاني الإنساني، بعدها يبدا مرحلة التقويم الخارجي للاحداث والرؤى التاريخية والآنية والمستقبلية باستخدام العقل والمنطق والابتعاد قدر الإمكان عن التلقين من قبل الآخر، وفي هذه الحالة سينجب التفكير الحر حقائق إيجابية من رحم المعاناة الإنسانية للفرد، وبذلك ترتقي الامم بالتفكير الراقي المنتج حسب متطلبات المرحلة التي يمر بها الانسان، وتتخلف وتختلف بالتراجع الفكري المستند على الماضي المجرد من الحداثة والبناء الحضاري الإنساني، وهنا يستوقفنا المثل الإنكليزي القائل: “من يبحث كثيرا يضحك اخيرا”.