أين نقف من اتفاقية بايدن-الكاظمي؟
سمير عادل
منذ مقتل قاسم سليماني الرئيس التنفيذي لتصدير الهيمنة القومية الإيرانية إلى المنطقة بعنوان “المقاومة والممانعة” بدل من عنوان تصدير الثورة الإسلامية التي اخترعها الخميني، فجماعة ولاية الفقيه في العراق المتمثل بالتحالف الميليشاتي الذي يسمى بفتح تمارس ضغوطها داخل البرلمان العراقي لإنهاء الوجود الامريكي، هذا ناهيك عن ممارسة سياسة نشر الفوضى الامنية عبر عمليات الاختطاف والاغتيالات بحق الناشطين والمعارضين السياسيين وقصف القواعد الامريكية لتحقيق الهدف المذكور.
وأخيرا جاءت الاتفاقية بين بايدن-الكاظمي ليعلن دعائيا وإعلاميا انتهاء المهمات القتالية للقوات الأمريكية في العراق مع العنوان الجديد للتواجد النفوذ الأمريكي في العراق، إذ نصت الاتفاقية على استبدال المهمات القتالية بمهام المشورة والتدريب والتعاون العسكري بين الجانبين.
نفس الاتفاقية أثارت موجة من الانقسامات داخل محور القتلة والمجرمين والفاسدين الذين يسمون انفسهم بمحور المقاومة والممانعة. فتحالف فتح بزعامة هادي العامري أيد الاتفاقية وشرب نخب انتصار السيادة العراقية كما اعلن، في حين جاءت الردود مخالفة من قبل اطراف اخرى داخل التحالف والتي أعلنت بضرب التواجد الامريكي في العراق تحت أية عناوين. هذه التناقضات في مواقفها من الاتفاقية لها معطيات واقعية. فلا يمكن فهم مواقف فتح وتحديدا كتلة العامري من تأييده للاتفاقية دون العودة الى عشية موافقة نفس الكتلة وجر جميع المليشيات وراءها في تأييد اختيار الكاظمي في البرلمان. فتحالف فتح له حاسة شم سياسية انتهازية وأبعد من مبدأ ولاية الفقيه والدفاع عن المذهب إلا بمقدار ما يشكل من اخطار على مصالحها المادية، وكلنا نتذكر حتى قبل اشهر قليلة كانت مليشيا بدر التي يتزعمها العامري تستلم مساعدات مالية من الولايات المتحدة الأمريكية تحت يافطة محاربة داعش قبل انهاء تلك المساعدات بقرار من الكونغرس الأمريكي. فهي ترى (أي كتلة فتح) إلى وضع الجمهورية الاسلامية وولاية الفقيه التي تغلي من الداخل ولا يُعرف متى سينفجر بركان ثورة جديدة. فها هي الاحتجاجات العمالية التي تضرب أكثر من ١١٧ من كبريات مصانع ومعامل ايران مثل النفط والمعادن والبتروكيمياوت وغيرها وانتشار رقعة التظاهرات ضد الجمهورية الاسلامية في عشرات المدن مثل الأحواز واصفهان وطهران، والانقسام الحاصل في الطبقة الحاكمة في إيران حول كيفية ادارة السلطة وخاصة خلال الانتخابات التي كشفت عن عمق الهوة بين جماهير ايران والنظام السياسي الحاكم، وغياب أية استراتيجية في احتواء الاحتجاجات أو الرد على مطالب الجماهير سوى القمع السافر والارهاب، واشتداد الحصار الامريكي على ايران وتطور الحلف الاسرائيلي مع بلدان الخليج، اضافة الى عوامل اخرى فرضت على تحالف فتح الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار المحدقة على كل مصير الإسلام السياسي في المنطقة. ولذلك جاء موقفه متناغما مع الاتفاقية التي هي نفس اتفاقية الاطار الاستراتيجي الذي وقعها نوري المالكي عندما كان رئيسا للوزراء مع تغييرات طفيفة هنا وهناك من بنودها دون المس بجوهر النفوذ الامريكي في العراق. هذا إذا أضفنا إليها عوامل أخرى مثلما ذهبت ادارة ترامب بالتهديد الى فرض العقوبات الامريكية على العراق بعد الانسحاب الكامل، اذا استمر قصف القواعد الامريكية، والذي يعني من الناحية العملية موت الجمهورية الاسلامية قبل موت فتح ومحور المقاومة الذي يعتبر العراق الرئة الاقتصادية لهم عبر عمليات التهريب والسرقة والنهب.
العراق ليس افغانستان، ويتوهم كل من يتصور بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستنسحب من العراق كما انسحب من أفغانستان. فالسياسة الامريكية في افغانستان تغيرت ضمن خدمة إطار الاستراتيجية الامريكية لإدارة بايدن في احتواء الصين وروسيا. وعندما احتلت الولايات المتحدة الامريكية أفغانستان عام ٢٠٠١ كان ضمن استراتيجية تحقيق (النظام العالمي الجديد) بقيادة العالم تحت الراية الامريكية وتحت عنوان محاربة الارهاب، الا ان اليوم لها استراتيجية مختلفة تماما وهو ردع الصين وروسيا. وعليه فإن انسحابها من افغانستان ليس في الحقيقة إلا إسدال الستار عن آخر فصول (النظام العالمي الجديد) لبدء استراتيجية الحفاظ على مكانة الولايات المتحدة الامريكية أمام روسيا والصين. وجاء انسحابها من افغانستان بقدر ما كان تواجدها يحمي روسيا من المسلمين الشيشان والصين من الإيغور والهند من كشمير، فأن بانسحابها خلطت الأوراق وأصبحت هذه الدول في موقع لا يحسد عليها، ولهذا جاء دخول الصين وروسيا على الخط للتفاوض مع الطالبان. وليس هذا فحسب بل كما اشارت الاستخبارات الروسية ان عصابات داعش من ليبيا وسورية وتركيا والعراق يتجهون نحو افغانستان. اي بمعنى اخر، اصبحت افغانستان قلعة جديدة لإعادة تموضع الارهاب الاسلامي وتوجيه من جديد ضد خصمي الولايات المتحدة الامريكية، وهذا ما تحقق جزء من الاستراتيجية الامريكية.
وفي نفس الإطار تعزز الولايات المتحدة الامريكية من تواجدها في العراق، لاحتواء التمدد الروسي في المنطقة عبر البوابة السورية والتمدد الصيني عبر ايران، وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن عندما قال لن ننسحب من العراق مثلما انسحبنا من افغانستان، وقبلها تصريحات ماكنزي قائد القيادة المركزية الامريكية في تعليقه على ضرب القواعد الامريكية من قبل المليشيات بان الاستقرار الامني يتحقق بالدم، وايضا زيادة عديد قوات التحالف من ٥٠٠ الى ٥٠٠٠ عنصر، لتصب في رسم صورة الاستراتيجية الامريكية المعلنة وتوج بالتوقيع على اتفاقية بايدن-الكاظمي.
فيما تخص الاستراتيجية الايرانية باحتواء النفوذ الأمريكي في العراق، فليس امامها الا اشاعة سياسة الفوضى الامنية الى حد اشعال حرب اهلية. وقد عاودت المليشيات لسلسة من عمليات الاغتيال الجديدة والتي تعني تقويض حكومة الكاظمي وحصارها وفرض شروطها عليها. فتلك الاغتيالات تأتي ضمن الرد على الاتفاقية المذكورة.
بالنسبة لنا لا ننظر الى اتفاقية بايدن-الكاظمي بأنها ستجلب الاستقرار الامني والسياسي في العراق، بل على العكس تماما، فبموجب الاتفاقية يتحول العراق الى واحد من القلاع الرجعية للسياسة الامريكية في المنطقة. وليس هذا فحسب بل تواجد النفوذ الامريكي يحقق المصالح الامريكية على حساب مصالح جماهير العراق. وهذا يفسر الاشادة بالسياسات الاقتصادية التي تمثلت بالورقة البيضاء التي شرعها الكاظمي من قبل الادارة الامريكية والمؤسسات المالية والسياسية الامريكية اثناء زيارته الاخيرة الى واشنطن. اي بعبارة اخرى تحويل العراق بشكل رسمي الى احدى البلدان التابعة للبلدان الامبريالية العالمية والتي تعني مزيدا من الافقار كما شاهدنا في الورقة البيضاء وبنود موازنة ٢٠٢١ ومزيدا من سلب الحقوق على صعيد الضمان الصحي والاجتماعي وفرض شروط عمل قاسية على العمال كما نراها ونشاهدها في حقول النفط التي تتواجد فيها الشركات الامريكية والاجنبية الاخرى او شركات الاسمنت الفرنسية في كربلاء وفي السليمانية على سبيل المثال. وعلى مدى ما يقارب العقدين، فالتواجد الأمريكي في العراق عبر الغزو والاحتلال لعب دورا عظيما في نمو وتقوية وجود الإسلام السياسي والمليشيات التابعة لإيران، وعزز سياسة الفساد والسرقة، وغض الطرف عن كل المظالم الاجتماعية والاقتصادية والطائفية، وليس هذا فحسب بل نفخ الروح في غول وحشي منقرض ليطلقه من قفصه وهو داعش كي يستخدمه ذريعة لشرعية تواجده ونفوذه العسكري والسياسي.
النفوذ الإيراني والنفوذ الأمريكي وجهان قبيحان وشريران لوحش واحد، وأن أي استقرار امني وسياسي وتحسن في الظروف المعيشية للعمال والموظفين والعاطلين عن العمل لن يكن إلا بأنهائهم، فلا ترهات الخزعلي والعسكري ومن لف لفهم من محور الفساد والإجرام ولا ديمقراطية وحقوق الانسان للإدارة الامريكية بإمكانها صنع اي غدٍ أفضل لجماهير العراق.