الرواية هي جنس أدبي له عناصره التكوينية وهويته التي تجنسه عن باقي أجناس النثر من خلال محدداته التي تكسبه استقلالية بحد ذاته وانتمائية لمحيطه السردي ، لكنّ عناصر البناء الروائي تجعل للرواية هوية جينية وفق الحيز الإبداعي من حيث الجانب الشكلي والتركيب البنائي الداخلي وما يحيط به من نص محيط أو يتموضع ضمن مجاله الحيوي الدال من نص فوقي أو دلالي كامن موازٍ للنص المقروء ، فقد أعتبر بيرسي لبوك الرواية هي شريحة نسيجية من الحياة يظهر منها المقروء ويتموضع في فجواتها الكامن والفوقي الذي ينتج من خلال المقدرة التأويلية ، لذلك تعد الرواية عالماً موازياً للواقع وهذا العالم يتكوّن من عدة مستويات نصيّة سواءٌ أكانت سرديّة أو حوارية أو وصفية ، لكن ما يرفد هذه البنية التكوينية ويدور في فلك النص المكتوب هو ما يعرف بمصطلح ( النصّ المحيط ) والذي يعرّف نقدياً ( ما يدور في فلك النص من مصاحبات .. من عنوان الرواية و والعنونات الفرعية والإهداء والاستهلال … ) (1) وهناك أيضاً من يعتبر حتّى لوحة غلاف الرواية والتصميم الخارجي هو من ضمن عناصر النص المحيط ، وتعد عناصر النص المحيط قاعدة بيانات متوهجة تحيط بالمتن الروائي ، وتحديداً عتبة عنوان الرواية لأنّها قاعدة البيانات الأولى التي يتصدّى لها وعي القارئ المنتج لإنتاج أطر أولية إدراكية لفحوى النص وحيزه الحيوي ومجاله المادي ما دفع الناقد جيرار جنت إلى تسميته بـ ( المنطقة الفضائية والمادية من النصِّ المحيط والتي تكوّنت من المسؤوليّة المباشرة للناشر ) (2) وهذا يحيلنا إلى ديناميكية العنوان الرئيس والعنونات الفرعية في إنتاجية نصوص موازية وفوقية دالة تجعل المتن الروائي ذا حركية دافقة ، ولا يخفى عند تصدينا لعنوان رواية حميد الربيعي ( جدّد موته مرتين ) من طاقة هذا العنوان الإيحائية والكامن فيه ومدى إرتباطه عضوياً ببنية المتن الروائي من حيث تفكيك العنوان لمكوناته اللفظية والتي خرجت من معناها المعجمي الضيق لتكتسب مستويات دلالية جديدة ضمن التركيب الذي تموضعت في أجزائه فعتبة عنوان ( جدّد موته مرتين ) تحيلنا لإنتاجية مراحل زمنية من خلال دالة (الموت) والمفارقة الكامنة فالحياة هي المضاد للموت وهي من تتجدّد ليضعنا الروائي من أولى خطوات قراءة عمله أمام مهمّة تأويلية منتجة ومجتهدة في إنتاج معاني ودوال جديدة لا تقوى القراءة التفسيرية على سبر أغوار المعاني المتموضعة في فجوات العنوان والتي فيها من حيث الصعيد النحوي هذه الحركية الفعلية المستمرة مع الفاعل الكامن (هو) .
لكنّنا نجدُ أنّ السارد حميد الربيعي أدرك الطاقة التحفيزية للنصِّ المحيط أيضاً من جانب ( العنونات الفرعيّة ) والتي منها شخصي أو مكاني أو زمني أو ذاتي في تقسيم مقاطع روايته وفق عناوين ديناميكية تساهم مساهمة فاعلة في إثراء إنتاجية النصّ الدال ، وهو ما يعرف بـ(النصيّة المصاحبة) والتي ترتبط عضوياً بنسيج المقطع الذي تتصدره وكانت هذه ( العتبات النصية ) مكمّلات متممة لنسيج النصِّ الدال و محفزة لفعل القراءة ، فالراوي حميد الربيعي استخدم التقطيع والتفكيك لتكون هذه العتبات لها دور في تحديد نوعية القراءة ، ومرتبطة بالنص عضوياً ومنتجة لنصٍّ موازٍ فكانت ( العتبات النصية ) في رواية ( جدّد موته مرتين ) على وفق ما يلي ( رحلة عزيز ، العرس ، رحلة الخضيري ، الجامعه ، رحلة مريم ، الفحام ، رحلة داعرة ، سعدون ، رحلة دلون ، الرئيس ، المجاري) هذه العتبات هي ضمن رواية عراقية شخوصها واقعية وسردها متخيل على لسان الراوي العليم تارة ، وتارة أخرى على لسان الشخصيات (نجم الفحام ، سعدون ، عزيز على اكبر ، ميرزا ) وهو ما يعرف بتعدد الرواة والذي يكسب النسيج الروائي طاقة وحيوية دافقة ولكن ما سوف نتصدى له هو العلاقة الحيوية بين العتبات النصية وبين المتون التي ارتبطت بها فنجد من خلال عتبة المقطع الأول والتي بدأت الرواية به ( رحلة عزيز )
( حين سئل عن وظيفته رد بتلقائية :
ــ اخصي الرجال ) ص5
توحي بأنّ صاحب الوظيفة له سطوة أو سلطة تعسفية في المجتمع ، عند الخوض في قراءة السرد يتضح بأنّ نجم الفحام له صولاته في شوارع بغداد يخصي الرجال ، الكثير يهرب منه ويتجنبه هنا يتجلّى مدى ارتباط عتبة عنونة المقطع الأول رحلة عزيز بمتن المقطع من حيث السطوة وليست التسمية ليتوسع الروائي في توضيح مدى الارتباط بين العتبة والمتن .
( فهذا الرجل الوحيد الذي امتلك الرغبة والمقدرة على لوي الصفن ، حتى ان طريقته مميزة ولا يشوبها اي خطأ في عائديتها له . وأنا طبعا لم اطرح على نفسي سؤالا عن ماهية هذه الرغبة المجنونة لديه بملاحظة بيوض الرجال من دون سواها من اعضاء الجسم ) ص8
عندما اختار السارد في المقطع الثاني ( العرس ) عتبة للمقطع فهو قد هيّئنا للولوج في أعماق هذه المناسبة الاجتماعية واختلافاتها بين الشعوب فالعرس مرتبط عضوياً بالعادات والتقاليد في منطقة عكد الاكراد وهو المكان الذي يؤسّس الراوي لمخيلته السردية حقائق تاريخية وجغرافية ووقائع تخيل سردي يجسدها راوٍ عليم ، فالأحداث والشخصيات رغم أهميتها وضرورتها في الكثير من الأحيان يحتاجان إلى مكان تجري فيه الوقائع والأحداث وتتشكّل وتتكوّن فيه أبعاد الشخصية الروائية ، الفضاء المكاني ( الطوبوغرافي والجغرافي ) ، الاشخاص في هذه المناطق بعضهم غلاظ أشداء ، شباب الصدرية يقومون بحركات يغيضون بها شباب الفضل ، فتحدث مشاحنات على طول الشارع حتى تقاطع سينما الفردوس ، هذه المشاحنات أصبحت مألوفة للجميع بمرور الايام ، وكذلك سباقات الطيور التي تُنسي الهموم والضغائن ، فوق السطوح تربّى الطيور في اقفاص ، انواع كثيرة منها ، الزاجل / الفخاتي / الدرّاج في وقت العصر يبدأ السباق ..
إنّ القراءة الواعية التي تنتج فهماً للمعنى للعتبات النصية والعنونات الفرعية تقودنا نحو تأويلية واعية فمن قراءة العنونات الفرعية نجد تعدد الرواة والساردين وهو ما يكشف أبعاد بعض الشخصيات المركزية في الروية ويستبطن أفعالها وتصرفاتها وأثرها في حركية الحدث وتنامي الصراع فمن أهم العتبات الفرعية هي شخصية (أم خليل) لها دور فعّال ومنزلة في عكد الاكراد وهي في المقابل شخصية متناغمة ومتفاعلة مع شخصية مركزية وهي شخصية نجم الفحام فشخصية أم خليل بؤرة مركزية وعتبة مهمة لإنتاج مستويات فوقية وكامنة والنص الفوقي كما يعرفه جيرار جنت ( هو كلُّ عنصر مناص غير ملحق بالنص لكنّه يتحرك بحرية وسط فضاء فيزيائي واجتماعي مضمر غير محدود ) (3) هنا كان لشخصية أم خليل طاقة إيحائية عالية وترميز متعالق مع دلالات متعددة فهي الأم بكلّ تجليات المعنى و ترتبط به بترميز ذي خطوط دلالية متشعبة بتداولية متوهجة و بها تحلُّ بها وتتحد كل رموز القوة والحنان والأرض والقداسة .
( من يعترض على إرادة ام خليل فهي السيدة المبجلة في عكد الاكراد وسائر الاحياء المجاورة اخذت منزلتها على مر الايام وبالذات بعدما صارت ام الشهيد في حادثة مشهورة في تاريخ بغداد كلها ذلك لان خليلا اعترض رتل دبابات اقتحمت المنطقة منذ عشر سنوات خلت ، عطل الرتل ثلاث ايام ، كان يطلق الرصاص من فوق السطوح وفي النهاية تبول على الرتل ) ص11
اصبح لام خليل شأن كبير في حل النزاعات في المناطق لان كلامها مسموع وهي ام لكل الشباب فهي تقدم الشاي ابو الهيل في العشره الاولى من محرم وتقيم تشابيه ( عرس القاسم )بمساعدة نساء المنطقة.
استطاع السارد من خلال شخصية نجم الفحام أن يجعل من عتبة هذه الشخصية محوراً فاعلاً ومركزياً في إنتاجية (النص الدال) فهذه الشخصية وما فيها من مستويات متعددة وما تحمله من صراعات داخلية لها تجلياتها وإسقاطاتها على النسيج الروائي فعلى الرغم من كل ما حملته هذه الشخصية من تناقضات تتجسد في الرواية قصة حب بين (نجم الفحام) خاصي الرجال الذين يعترضونه ويصادرون حقه في الحرية والحياة ، الذي يملك القوة وهو شخصية بارزة في المجتمع مع ( مريم ) التي تمتلك الجمال والحسن .
( مريم قمر عكد الاكراد والياقوتة المتلألئة لم يخلق مثل جمالها في كل احياء الصدرية ، بيضاء ذات قوام ممشوق وخصر تقف عليه الطيور ، عنقها مثل منارة تهدي الضالين ، لها قدمان مثل رسغ عصفورة تلامس الارض ) ص18
وأيضاً منحنا النص معرفة محاولات نجم الفحام وإدراك لواعج شخصيته ونزعاتها الداخلية من خلال محاولة نجم الفحام يجري وراء اخصاء الرئيس حينما سنحت له الفرصه بمقابلته لكن لم يفلح .
( لم ينهض ادرك سطوتي فرن الهاتف على مراسله . كنت الج باب المغادرة مخلفا ورائي هاتفا يرن على سعدون وعينا الرئيس تتطاير شرراً اعوام السعي مراء بيضتين معلقتين في الخفاء ضاعت هباء , مندحر وخائب وخائر القوى ، تاكلني الحسرة على ضياع الفرصة التي انتظرتها العم كله ) ص 17في عام 2003سقوط الصنم
لقد كشفت شخصية نجم الفحام مستوى ملحمي بطولي تمثل في تقلبات حياة البطل وسقطاته التي تكون نقاط إنعطاف في أحداث الرواية وتمنح النص طاقة متحركة وتمثلات رمز البطل في هذه الشخصية والتي كانت بؤرة مركزية تشحن النسيج بدفق إيحائي متوهج ومتعدد المستويات بقوته الترميزية :
(أنبأني جليل حيدر بنى تمثالا له في ساحة . حر الظهيرة يلسع قفاي وأنا اسرح نحو الساحة ، لم اشهد سقوط الصنم ، وجدت صبيا يضرب راس الرئيس بنعاله )ص187
ينتهي الرئيس بإخراجه من حفرة اشعث الراس واللحية ، بعد اكمال المحاكمه شنق وانتهت حياته .يقال ان نجم الفحام اختفى الى الابد ، مات او قتل في فينا .
( نجم الفحام اختفى الى الابد . لقد شيع اصحابه جنازة بجسده الى المقبرة ) ص177
( اذا ظهر الفحام ثانية ، فلا يحق له معاتبتي فقد ملتكه قدرات فوق ما كان يحلم به )ص195
إنّ الرواية في متنها السردي تحكي سنوات القهر والقمع للسلطة الدكتاتورية التي لاتزال آثارها على الواقع العراقي والسياسي للكرد الفيلين في محلة الاكراد وابو سيفين والصدرية لحد الان .. ذكريات مؤلمة شهدها العراق في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ، قرارات قمعية للسلطة الدكتاتورية ضد شريحة الاكراد الفيلين ، وهي فئة تعاني من نيسان عام 1980 السلطة التعسفية بحجة تبعيتهم الايرانية ، قامت السلطة الدكتاتورية بتهجير ألاف العوائل الى ايران وسحب الجنسية العراقية بالعنف ، رحلت ام خليل وام مريم ومريم وكل العوائل في المنطقه الى قلعة دزة شمال السليمانية ، تتعرض هذه المدينه بالقصف بالقنابل وتهدم البيوت على رؤوسهم فتستشهد ام مريم وأم خليل التي وجدت تحت الانقاض واضعة على صدرها صورة ابنها الذي تهشم الزجاج عليها وأصبحت ملابسها السوداء رمادية من التراب ، تسبى مريم مع الفتيات الى مشارف الصحراء ونتيجة ابتعادها عن حبيبها نجم الفحام واستحالة اللقاء به تزوجت من شخص آخر حتى يحميها من التشرد هذا المتن كانت للعتبات النصية وظيفة فاعلة في تهيئة القارئ الواعي وتفاعله مع مجريات الأحداث وهي كانت تقود المتلقي للملمة خيوط النص السردي بغية انتاج الدلالات وسطوع معانيها فالتقطيع النصي في الرواية اضاف لها فيض دلالي وارتبطت عتباتها النصية ارتباطاً عضوياً بشخصيات مهمة تسرد الحكي ، مشكلةً فضاءً متنوعاً ، رواية حميد الربيعي ، رواية الحب والعشق ، رواية الكراهية والظلم وانتهاك الحريات وتدمير الانسان وتهجيره ، رواية متعددة الاصوات وثق ما يمكن توثيقه من احداث وقرأ تاريخ العراق خلال تلك المرحلة ، سلط الضوء على شريحة مهمشة كانت تسكن بغداد قديماً الكرد الفيلين ، فهي تاريخية واقعية بسرد متخيل فكانت اسلوباً ادبياً رائعاً يجسد تيار الوعي ..
1- العتبة النصية / الدكتورة نادية بوشفرة / بحث مقدم لجامعة مستغانم كلية الآداب والفنون ص1
2- (عتبات جيرار جنت من النص إلى المناص ) تقديم سعيد يقطين ، الدار العربية للعلوم بيروت ط1 /2008 ص 49
3- المصدر السابق