“ألا حدِّثْنا عن الأطفال، فقال المصطفى: أولادُكم ليسوا لكم، أولادُكم أبناءُ الحياة، أنجبَهم حنينُ الحياة إلى ذاتها. بكم يأتون إلى العالم، ولكنهم ليسوا منكم، قد يعيشون معكم، ولكنهم ليسوا ملكًا لكم. تمنحوهم حبكم ولا تملكون عقولهم.” هكذا قال الأديب اللبناني “جبران خليل جبران” في كتاب “النبيّ”، الذي كتبه بالإنجليزية وتُرجم إلى أكثر من خمسين لغة لعظمته في تشريح العلائق الإنسانية وصوغ وصفة سحرية تُعالج لغز الحياة على نحو صوفيّ راق قوامُه الحب. أولادُنا قِطعٌ حيّة من أرواحنا تمشي على الأرض. يغزو قلوبَنا الفرحُ مع أول نظرة تلتقي فيها عيونُنا بعيونهم الصغيرة يوم ميلادهم، وتتعمّق مع الأيام تلك النظرةُ وتتشابك خيوطُ الحب والشغف، حتى يصيروا شبابًا وشاباتٍ يحملون العالم على سواعدهم، ويحققون أحلامَهم وأحلامنا. نمنحُ الحبَّ والرعاية والتعليم والمعرفة، ولا ننتظر منهم إلا أن يكونوا زهورًا مشرقة في بستان الحياة، يحملون لواء الإنسانية ويرفعون راية الوطن. ومع هذا، فبعضُ تعساءِ الآباء والأمهات ينالون نعمة الأبناء، لكنهم لا يُقدّرونها، فيُفسدون النبتةَ الوليدة التي خلقها الله طيبةً، فيُغلظون ويَقسون ويُعنّفون ويضربون ويجلدون ويختنون وقد يقتلون تلك البراعمَ الصغيرة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
على صفحات فيسبوك صدمنا فيديو وحشيٌّ لصبية جميلة في السابعة عشر من عمرها، تجلسُ متكورةً على الأرض مُكبّلةً من رُسغيها وقدميها بالحبال السميكة، تنظرُ برعب وهلع إلى عيني رجل ضخم يضربها بعصا غليظة (شومة) ضربًا مبرحًا! الصبيةُ تصرخ وتستغيثُ وتتوجع مع إيقاع طرق العصا على جسدها، وتسقط على جنبها ذات اليمين وذات اليسار وتتدحرج مثل كرةٍ في يد طفل طائش، فيجذبُها الرجلُ من شعرها القصير لتعتدل في جلستها، لكي يُكمل وجبةَ التعذيب المسمومة، فتنظر إلى عينيه متوسّلةً إلى جلادها أن يكفّ لحظةً حتى تلتقط أنفاسَها، ولكنه يُكملُ الطقس الدموي على النحو الأبشع. علمنا من مفردات البوست أن تلك الفتاة التعسة يتناوب على تعذيبها شقيقها وزوج شقيقتها بإيعاز من أمّها وخالها!!!! والسبب؟ غيابها عن المنزل! تلك الأسرة التعسة تضعُ العربةَ أمام الحصان. يضعون النتيجة محلّ السبب! يعذبون ابنتهم بسبب هروبها من المنزل، والصحيحُ أنها تهرب من المنزل بسبب تعذيبهم. لا يهربُ أحدٌ من الحب، بل من البغضاء! لو وجدت تلك الصبيةُ الحنانَ الذي تستحقه في بيتها، ما هربت! الآن، نترك الجزء الظالمَ المظلم من الحكاية، وننتقل إلى الجزء العادل المشرق. رصدت أجهزةُ الداخلية مقطع فيديو التعذيب واستطاعت تحديد مكان تلك الأسرة الظالمة في مدينة الإسماعيلية، وألقتِ الشرطةُ القبضَ على الوحوش الآدمية، وتم تحوليهم إلى النيابة والتحقيق معهم. وباحت الفتاةُ بجميع ما خضعت له في حفلات التعذيب من تكميم فم وتكبيل أطراف والجلد بالسياط والطرق بالعصا والركل بالأقدام الغلاظ والسباب والإهانة بالألسن الطوال؛ وهو ما وثّقته مقاطعُ الفيديو التي صورتها شقيقتُها للإمعان في إذلال شقيقتها المسكينة المستضعفة! ومن رحمة الله بالصغيرة المعذبة ورحمته تعالى بحقوق المجتمع، نشب خلافٌ بين والدة الفتاة وشقيقها، خال الصبية، فقام بنشر الفيديو على فيس بوك تنكيلا بأسرة الفتاة، فوقع في فخِّ العقاب بعدما فضح نفسَه وذويه الجلادين، وقد ظن لجهله أنه بمنأى عن العقوبة. وتنازلت الفتاةُ المسكينة عن البلاغ ضد ذويها، إما طوعًا لأنهم ذووها، وإما جبرًا خوفًا من العواقب المخيفة إن تمكنوا منها بعد فلاتهم من قبضة القانون. أما الجزء الأكثر إشراقًا في الحكاية، فيأتي على يد النائب العام المستشار المحترم: “حمادة الصاوي” الذي رفض التنازل عن حق المجتمع في القصاص من المجرمين الذين تجردوا من كل قيم الإنسانية ونزعات قرابة الدم فأهلكوا فتاة من صلبهم تعذيبًا وإذلالاً وإهانةً وسحق كرامة. النيابة العامة هي ضميرُ المجتمع ولسانُ حقوقه ويدُه الضاربة على يد المفسدين. ولهذا، ورغم تنازل المجني عليها عن البلاغ ضد ذويها، قررت النيابةُ العامة حفظ حق المجتمع في تلك الجريمة، فأودعت الفتاةَ إحدى دور الرعاية لتلقي ما تحتاج إليه من حب يُضمد جروحَها الجسدية والروحية ويرأب صدوع نفسيتها المهشمة، وأمرت بحبس الخال والشقيق وزوج الشقيقة على ذمة التحقيق، حتى يكونوا عبرة لغيرهم من الآباء والأمهات والأشقاء الذين لا يستحقون شرف الأبوة والأمومة والأخوة. مصرُ تسير على خطى المجتمعات الراقية في حفظ حقوق الطفل الذي إن تعرض للإيذاء البدنيّ أو النفسيّ على يد ذويه، يُحرَم ذووه من ذلك الطفل وتسترده الدولةُ لترعاه. فالطفلُ ابنُ المجتمع وصانعُ غدِها. إن أٌكرم الطفلُ أشرقَ الغدُ، وإن أُهين الطفلُ مات الغد.
أولادُكم ليسوا لكم … شكرًا للنائب العام
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا