حين تجمع الخشبة العلوم والفنون
إنه من المفيد تسليط الأضواء علي ماهية النقد الأدبي بشكل عام والنقد المسرحي بشكل خاص، وعلاقة كل منهما بالآخر وتأثيره عليه، وما هي الأسس الصحيحة التي لابد أن تقترن بها كل الظواهر النقدية في الأدب والفن، بحيث تصبح جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية برمتها وليست خارجة عنها. ولأن النقد في المسرح العربي
أخذ أبعاداً مختلفة بعضها سلبي سطحي والبعض الآخر إيجابي عميق علي الرغم من ندرته ، فإن من المهم هنا البحث في جذور النقد وأصوله التاريخية ومن ثم شروطه الفكرية ، التي ستؤثر في عملية التطور الإبداعي للمسرح عبر مراحل مختلفة . ولأن النقد المسرحي في عالمنا العربي يحتاج إلي إعادة النظر في العديد من جوانبه، فإن مهمة هذه الدراسة البحث في هذه المشكلة من أجل إيجاد الحلول الملائمة لخلق حالة نقدية سليمة. وعليه فإنه يتوجب علي تناول أهمية النقد في تطوير الحركة الأدبية والمسرحية منذ المراحل الأولي لنشأة وظهور الأدب والفن.
النشأة :
لم ترتبط نشأة الأدب منذ البوادر الأولي للحكايات والأساطير والرسائل الأدبية القديمة بعد ظهور الكتابة المسمارية حتي مراحل متقدمة من التاريخ القديم بأية ظواهر نقدية، فقد كانت تلك القطع عبارة عن محاولات فردية عفوية للتعبير عن هموم الناس في تلك الفترة، إنها حالة من المحاكاة للحياة و تناقضاتها الكثيرة، وهي حالة من التعبير عن أحاسيس الإنسان ونظرته إلي الكون وإلي الحياة والموت، وهي مفردات إنسانية تهدف إلي التعبير عن الحب والفرح، مثلما هي مفردات للتعبير عن الشجون والأحزان وعن الوجود و العدم، بحيث أن ظاهرة التعبير هذه كانت في بداياتها ظاهرة محدودة الأبعاد وليست ظاهرة عامة، إلي أن تطورت شيئا ً فشيئا ً فيما بعد وأصبحت جزء لا يتجزأ من حياة الناس بشكل أو بآخر و منم ثم أصبحت ظاهرة إبداعية شاملة.
نعم. لم تكن هنالك ظواهر نقدية واضحة المعالم في العالم القديم، فقد كانت كل الأشياء تحدث بانسيابية بديعة حيادية النوايا وشمولية الأبعاد، ولم يكن هنالك من يوجه مسارها سوي تلك المحاولات التي نشأت وتطورت وأثرت في بعضها البعض ثم أصبحت فيما بعد هي النقد بذاته، وليس النقد الذي يأتي من الخارج ليحدد مسارها الجديد.
هكذا مرت البشرية بمراحل عديدة من التطور الأدبي والشعري بشكل خاص دون أن يكون هنالك أي آثر للنقد عليها، بحيث ارتبطت بالوعي الاجتماعي ومقدار تطوره ونموه عبر تلك المراحل، وكذلك ارتبطت بمقدار القيمة الإبداعية للنتاجات الأدبية التي وصلت إلي ذروتها إبان العصور القديمة، بعد أن قطعت البشرية شوطا ً كبيراً ً من حياتها، حتي وصلت إلي المرحلة السومرية والبابلية الأولي والثانية في العراق القديم، و المرحلة الفرعونية في مصر القديمة ، وكذلك إلي مرحلة نشوء وارتقاء الحضارة اليونانية القديمة.
وما أن تمكنت تلك الأمم والشعوب من تدوين تراثها الأدبي ، حتي أصبح بالإمكان الإطلاع علي تلك التجارب التي أبتدعها أولئك الناس الأولون، الذين رحلوا عن الدنيا وتركوا لغيرهم أدبا ً خالدا ً مازال يؤثر فينا حتي يومنا هذا مثلما كان يؤثر في الأقوام الغابرة.
وهنا، لا يجد المتتبع أي أثر للنقد الفني الذي مهد الطريق إلي التطور اللاحق في صياغة الحكايات أو الأساطير أو الملاحم والأشعار القديمة، بل كانت هي وحدها تشكل نقدا ً لنفسها من خلال قيمتها الفنية والإبداعية وتأثيرها علي الناس، بل أن كل شيء في تلك الآونة قد اجتاز حدود المعرفة الإرشادية لأنه أصبح هو المعرفة المكتسبة من خلال تلك الإبداعات الفنية في الوصف والبلاغة والصورة المرئية التي تزخر بها تلك الكتابات .
بمثل هذا الطريقة ظهرت لنا ملحمة كلكامش، وظهرت لنا القطع المحجوبة وأساطير إيزيس وأوزوريس في مصر القديمة وظهرت لنا ملحمة الإلياذة والأوديسا في اليونان القديم، وبمثل هذه الطريقة الفنية الإبداعية وردت لنا تلك الأعمال الهامة ، دون أن تكون هنالك أية إشارة تؤكد علي أية ظاهرة نقدية مرافقة أو مكملة لتلك الأعمال الخالدة ، أو أنها جاءت بعدها بفترة متعددة من التاريخ القديم.
وفي هذا خير دليل علي أن الإبداع هو وحده الذي كان يؤسس ويطور الأعمال الأدبية واحدة تلو الأخري، وفي النهاية لم تبق سوي تلك الأعمال الإبداعية وغيرها ممن يرتقي إلي مستواها، أما الأعمال الأخري التي لا تحظي بتلك المكانة الإبداعية فقد اندثرت بمرور الوقت أو أنها لم تكتشف بعد.
أما في المسرح، فلم يتأكد بعد وجود حالات نقدية واضحة المعالم عند ظهور القطع الأولية التي تشكلت بها بذور الدراما في المرحلة السومرية أو البابلية، أو تلك القطع الذي وجدت في مرحلة الحضارة الفرعونية، وكذلك تلك الأعمال التي كانت ملازمة لظهور أولي بوادر المسرح الإغريقي القديم.
ربما يذهب البعض إلي أن (أرسطو) منظم التراجيديا القديمة هو من أسس أول ظاهرة نقدية في المسرح القديم، لكن هذا الرأي يحتاج إلي أدلة كبيرة لكي يثبت أن مسار فن تأليف المسرحية قد تغير وتطور من كاتب إلي آخر بفعل تأثير النقد الذي طرحه أرسطو أو غيره من الفلاسفة ، حتي إذا وجدنا أن هنالك بعدا ً زمنيا ً شاسعا ً يفصل بينه وبين كتابات أسخيلوس أو سوفوكلس أ و يوربيدوس، أو حتي إن وجدنا بعداً ً مرحلياً ً مختلفا ً بين نشأة وظهور كل كاتب من هؤلاء الكتاب عن الكاتب الآخر.
وفي مثل هذه الحالة أصبحت الظاهرة النقدية الاجتماعية التي تقبلت تلك النصوص والعروض المسرحية التي كانت تقدم منذ عام 600 ق. م إلي فترة ظهور الديانة المسيحية ، هي الظاهرة الوحيدة التي شكلت بعموميتها ظاهرة نقدية أثرت في نشأة المسرح وتطوره اللاحق علي امتداد التاريخ ، إذ بدون وجود تلك القاعدة الشعبية من الجمهور وتقبله لتلك الأعمال، وبدون القيمة الإبداعية التي بلغتها، لاندثرت تلك القصص والحكايات والأساطير والملاحم ، ومن ثم لاندثرت تلك الأعمال المسرحية أو أهملت حتي إذا تم تدوينها لإنقاذها من الضياع أو التلف بمرور الزمان، وعلي هذا الأساس كان أرسطو دارساً ً ومنظماً ً للتراجيديا اليونانية القديمة وليس باعثا ً لها.
الفلسفة و الحركة النقدية
لقد لعبت الفلسفة من دون أدني شك دورا ً كبيرا ً في نشأة الظاهرة النقدية في الأدب بشكل عام والمسرح بشكل خاص، فهي المحرك الأساسي الذي يحلل الظواهر والأشياء وتناقضاتها المختلفة ومن ثم يعطي البدائل الجديدة التي يمكن أن تكون عليها التحولات الفكرية اللاحقة، وهنا يمكن القول أنها عمقت فكرة البحث والسؤال عن ما يجري من تفاعلات يومية في الحياة عبر مسارها الطويل، والسؤال هنا يعني مقدار الإضافة لمعالجة البحث، والبحث يعني تحليل أية ظاهرة وإعطاء الجواب الوافي قدر الإمكان لكل ما هو موجود داخل النفس البشرية بشكل خاص أو داخل المجتمع بشكل عام.
وكما هو معروف لقد ارتبطت الظواهر الفلسفية في الماضي القديم بمحاكاة الكون والآلهة القديمة سوي كانت سومرية أو فرعونية أو إغريقية، ومن ثم تطورت شيئاً ً فشيئاً ً لترتبط بالتحولات الاجتماعية التي تهم عامة الناس وتهم المجتمع وما يدور في داخله من تحولات يمكنها أن ترسم مساره اللاحق. وبهذا يمكن القول أن الفلسفة قد ارتبطت بفكر الإنسان ونمت وتطور معه في مرحلة ظهور الأدب والفن عامة وظهور المسرح خاصة، حتي وإن كانت مفاهيمهما لم تتبلور بعد إبان المراحل الأولي من نشأة الأدب وظهور بواكير الدراما الأولي في المجتمعات القديمة، ومع ذلك فقد نشأ نوع جديد من الأدب القديم يسمي بأدب (التشاؤم) يتناول صراع الإنسان مع الإنسان الآخر، بعيداً ً عن تلك الصراعات التي كانت تتمثل بين الآلهة وأنصافها وانعكاسات تلك الصراعات علي عامة الناس، كما نجد في القطعة البابلية المسماة (العبد والسيد) .
وكما ذكرت آنفا ً، أن بذور الدراما السومرية أو البابلية والقطع التي كتبت في تلك الفترة، كانت بمجملها تحاكي الآلهة وسيرهم، لكن مع ذلك قد تطورت تلك القطع الدرامية لتحاكي حياة الناس و ما يحملون من آراء وأفكار ومشاعر تجاه الحياة وصراعاتها الكثيرة. إن هذا التحول في التعامل مع الأدب والفن قد ساهم مساهمة فعالة في تحرر الإبداع البشري من صيغه المثالية القديمة إلي صيغ أكثر حياتية من ذي قبل، وكل هذا قد جاء نتيجة التطور في التفكير الفلسفي للإنسان بتلك الآونة، بحيث تحول النشاط الأدبي من نشاط يتناول سيرة الآلهة وأنصاف الآلهة ، إلي نشاط يتناول سيرة البشر حتي وإن كانوا ملوكا ً أو قادة أو أبطالا ً.
وهكذا بدأت الظواهر النقدية تنمو وتتطور شيئاً ً فشيئاً ً منذ تلك الفترة ، وإن كانت ملامحها الفلسفية لم تكتمل بعد في جميع ميادين المعرفة الإنسانية ومنها المسرح.
وفي مثل هذه الحالة أن جميع النظريات الفلسفية التي ظهرت في مراحل متأخرة جداً ً من تاريخ البشرية وحتي يومنا هذا، تعتبر المحرك الأساسي والباعث الرئيسي لنشأة النقد الأدبي والفني في جميع مراحله، فهي الوعاء الذي تجمعت فيه كل الأفكار والآراء السابقة واللاحقة ، ومن ثم بلورتها وإعادة صياغتها من جديد ، لتكون ملائمة مع العصر ومع التفكير الإنسان في مراحله الآنية واللاحقة .
وبهذا يمكن الذهاب إلي أن العلاقة بين الفلسفة والفن والمسرح هي علاقة جدلية، لا تنفصل قطعاً ً عن ما يجري من تحولات فكرية اجتماعية علي امتداد العصور، ولا غرابة إذا قلنا بأن الارتباط بين الفلسفة والفن هو وحده الذي حول المسرح من فعل إبداعي ضيق الأبعاد ، إلي فعل شامل يستمد وجوده وديمومته من مجمل التطورات التي تلاحقت فيما بعد، وعلي هذا الأساس كان للفلسفة المثالية الألمانية التي ظهرت علي يد هيغل و فويرباخ والتطور اللاحق لها الذي وصلت إليه المادية الديالكتيكية في دراسة المادة و سبل تطورها وتحليل محتواها ومضمونها وشكلها، من العناصر الهامة التي تبلورت من خلالها الظواهر النقدية في الأدب الأوربي والفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص، كما ظهرت بذلك مفاهيم نقدية جديدة مثل وحدة وصراع الأضداد ونقض النقيض وغيرها من المفاهيم التي كانت غائبة عن بال الفلاسفة والنقاد في الماضي.
المراحل النقدية الأولي
في المسرح
وبعد أن تخطي المسرح تلك الفترة المظلمة التي حرمت ظهوره قرون عدة من الزمان ، ومن ثم ظهر من جديد في الكنائس لتقديم أعمال مسرحية تسمي مسرحيات الأسرار والمعجزات. بدأت مرحلة جديدة من الأعمال الأدبية والمسرحية في الظهور علي السطح، لكن هذه المراحل لم تأت بمحض الصدفة أو أن تتكون بسرعة . بل ترافقت أيضاً ً مع عملية التطور الاجتماعي في فرنسا وألمانيا وإنكلترا خاصة إبان القرنين الخامس عشر و السادس عشر وما تلاهما من قرون عديدة. حيث تحول النقد من فعل عام إلي فعل مدروس له خصوصيته وقواعده وركائزه، وهنا يمكن القول أن ظهور الأكاديميات في بداياتها الأولي قد ساهم مساهمة فعالة في ظهور النقد كمادة أكاديمية يمكن من خلالها تحليل تراجيديات شكسبير في انكلترا وتراجيديات غوته في ألمانيا، إلي أن أصبح فيما بعد علما ً يدرس في جميع الأكاديميات العالمية وله نقاد أكاديميون معروفون في كل أنحاء أوربا والعالم.
وفي هذه المرحلة تبلور النقد في مراحله الأولي ومن ثم تطورت المراحل النقدية بشكل كامل، بحيث أنها ساهمت مساهمة فعالة في تطوير أذهان الأدباء والفنانين عامة والمسرحيين خاصة لمعرفة معني الفن وما هي أسسه وأهدافه وطرائقه ومذاهبه المختلفة. وبهذا انفصل النقد عن الفلسفة فكرياً، وأصبح لكل منهما وجهته الخاصة ونظرته إلي الحياة والتطور الاجتماعي، حتي أصبح الفن يرتبط بفعل التغيير الجمالي للمجتمع وبنمو الذائقة الفكرية للجمهور، بينما بقيت الفلسفة مرتبطة بتحليل الظواهر والأشياء طبقا ً لحركة المتغييرات التي تحدث في الحياة قديمها وحديثها.
وبهذا أصبح النقد المسرحي علما ً لا يختلف قط عن بقية العلوم الأخري، وأصبح الناقد المسرحي ملما ً بكل العلوم الأخري إذا أراد تناول أي نص أو عمل مسرحي، وأصبحت موضوعة النقد المسرحي تشتمل علي تحليل النص كنص مكتوب والأخري علي تحليل العمل المسرحي بعد تقديمه علي خشبة المسرح.وبهذا أصبح النقد المسرحي لا يخضع قطعاً ً للأهواء الشخصية كما يحدث في بعض البلدان العربية، ولم يعد الناقد المسرحي كمن يتحدث عن نبتة مقطوعة الجذور، أو عن لونين فقط من ألوان الحياة دون أن يكون للألوان الأخري دور أساسي في عملية الخلق المسرحي.
النقد والعمل المسرحي
وعند الحديث عن العمل المسرحي العربي ذي الدلالات السامية، فإنه لا يجوز قطعا ً تحليل تلك الدلالات علي أساس ضيق، بل يجب علي الناقد أن يلتفت إلي الجوانب التاريخية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والجمالية، وتحليلها بحيادية تامة دون أن يكون لرؤيته الخاصة حكم عليها ، وبمعني أدق أن علي الناقد أن لا يضع نفسه في موضع المؤلف المسرحي إذا أراد تحليل النص المسرحي ، فهو وسيط بين المؤلف والجمهور وليس بديل عنهما علي الإطلاق.
فالناقد المسرحي للنص لا يتناول هذه المقارنات والمكملات المسرحية تناولا ً محدودا ً ، دون أن يقترن ذلك بالمفاهيم السائدة في ذلك العصر الذي كتبت فيه المسرحية ، وليس بالمفاهيم السائدة في العصر الراهن، وليس من وظيفته أن يجعل كل ما هو مكتوب في النص المسرحي خاضع للتحليلات السطحية، بل أن من وظيفته تحليل البناء الدرامي وتحليل الشخصيات والأفكار المسرحية ومقولتها تحليلا ً أكاديمياً ً فقط وأن لا يتحول الناقد المسرحي إلي مؤلف جديد للنص المسرحي، إذ أن لكل مؤلف مسرحي رؤياه الخاصة ومنهجيته الفكرية وطريقته في الكتابة .
إن النقاد الهواة هم وحدهم الذين يقحمون أنفسهم في أمور بعيدة كل البعد عن مهام الناقد المسرحي، في الوقت الذي نجد فيه أن المهمة الرئيسة للناقد المسرحي هي تسليط الأضواء علي القيمة الإبداعية للنص وتحليل مضامينه فقط .
كل هذا يندرج في إطار النقد الأدبي للنص المسرحي من ناحية الصياغة والمحتوي والبناء الدرامي، وهل هو نص سمعي أو أنها رؤية بصرية لمفردات مكتوبة، وهو في النهاية عبارة عن تفسيرات علمية لنصوص كتبت علي الورق في هذا الزمن أو ذاك ، وما قد يشار إليها من تفسيرات تؤدي في النهاية إلي ديمومة النص ، وفقاً للاكتشافات الجديدة التي يكتشفها الناقد في هذا النص أو ذاك دون أن يلتفت لها أحد من المخرجين أو الفنانين المسرحيين.
إن هذه الوظيفة النقدية من خصائص النقد الأدبي بفروعه المختلفة ومنها النقد الأدبي المسرحي، حتي أن بعض المؤلفين الكبار لم يظنوا حينما كانوا علي قيد الحياة بأن في كتاباتهم المسرحية معانٍ شتي لم تكن في حسبانهم عند كتابتها، أما الكتاب الراحلون عن الدنيا ولم تبق سوي أعمالهم الإبداعية، فإن من وظائف النقد المسرحي بعث هذه النصوص إلي حيز الوجود من خلال تلك الاكتشافات الجديدة التي توصل لها هذا الناقد المسرحي أو ذاك في العصر الحديث .
هذا من الناحية الأدبية لتحليل النص من قبل الناقد المسرحي، أما عن النقد المسرحي عند التنفيذ فهو يندرج في إطار تحليل النص تحليلا ً عملياً ً عند تقديمه علي خشبة المسرح، شريطة أن لا يضع الناقد نفسه في موضع المخرج والممثلين وفريق العمل المسرحي ككل ، بل يتوجب عليه أن يفسر ويحلل ما يجري علي خشبة المسرح تحليلا ً مرتبطا ً بالأفكار والصور الفنية وطرق إخراجها و ما هي المنهجية التي انتهجها المخرج والعاملين معه في تقديم عرضهم المسرحي، وما هي العناصر التقنية والمكانية والزمانية المكملة للعرض المسرحي، وهل هو عرض تجريبي أم أنه عرض كلاسيكي. كل ذلك له قواعده وأسسه وطريقة تنفيذه.
لكن المهم في هذا المجال أن يكون الناقد المسرحي للعروض المسرحية ملما ً أيضا ً ببعض الجوانب التنفيذية، و أن يفهم ماذا يعني التمثيل ومدارسه المختلفة، وماذا يعني الضوء وتأثيره البصري علي الجمهور، وماذا تعني فلسفة الحوار وفلسفة الحركة في العرض السمعي أو البصري، وماذا يعني الإيقاع في العرض المسرحي ككل، والإيقاع في المشاهد المختلفة سواء كانت فردية أم جماعية، وبالتالي ماذا يعني إيقاع السكون وتأثيره علي إيقاع المشاهد التالية المتحركة، وفي مثل هذه الحالة فقط، يمكنه أن يعطي فكرة واضحة وصحيحة عن دور المخرج المسرحي والعاملين معه في التعامل مع النص المكتوب، حتي وإن كان العمل المسرحي لم ينل اهتمامه و إعجابه الشخصي.
فالناقد المسرحي هو باحث مسرحي في الأصل، وهو أكاديمي محترف له خبره واسعة في مجال المسرح وله دراية واسعة في العلوم المسرحية ، ومعرفة أكيدة في جزئيات العمل المسرحي الاحترافي، لذلك تقع عليه مسؤولية كبري في رفد الحركة المسرحية بالأعمال الجيدة والحفاظ علي ديمومتها وتألقها باستمرار، ولا ننسي أبداً ً أن النقاد والباحثين المسرحيين هم الذين أرسو قواعد المدارس الفنية بكاملها، وهم الذين بينوا الفوارق بين تلك المدارس والمذاهب علي أساس علمي مدروس. إن هذا لا يتم إلا من خلال فهم معني الاحتراف في العمل والنقد المسرحي أيضاً ً، و هذا الاحتراف هو الذي يساهم مساهمة فعالة في تطوير الناقد المسرحي لأدواته الفنية ولمعارفه مثلما يساهم في تطوير أدوات المخرج والممثلين والعاملين في المسرحية.
إن الإلمام بما ورد أعلاه يمكن الناقد المسرحي من كتابة نقده المسرحي بطريقة احترافية متميزة وسليمة، وبهذا يصبح الناقد جزءاً ً من العمل المسرحي وليس بمعزل عنه، فإذا كان النقد خارج تلك الحدود فإنه من الأفضل للناقد أن يتعلم قواعد وحرفية المسرح، وأن لا ينتمي دفعة واحدة إلي مدرسة (الكمال) ، التي لاوجود لها علي الإطلاق في العمل الإبداعي المسرحي بشكل خاص والعمل الفني بشكل عام.
من جانب آخر، لا يفوتني هنا أن أؤكد علي أن الناقد الأول والمحلل والباحث الأساس للعمل المسرحي هو المخرج، إذ أنه هو الذي يختار النص بدراية تامة وهو الذي يعمل علي النص ويحدد نقاط قوته وضعفه، وهو الذي يدرس كل أبعاد الشخصيات كما هو معروف، ومن ثم يرسم لهم مسارهم علي خشبة المسرح، وبالتالي هو الذي يختار الممثل المناسب للدور المناسب، وفي النهاية هو الذي يدرس أدق التفاصيل عن سيكولوجية الجمهور ومستواهم الاجتماعي والثقافي.
كل هذه النقاط وغيرها يأخذها المخرج في الحسبان قبل البدء بمشروعه، وهي بطبيعة الحال تشكل نقداً ً مسرحيا ً من داخل العمل المسرحي وليس من خارجه، وفي مراحل أخري يبدأ المخرج المنظم أو الباعث وحتي المتمرد من السير بعمله خطوة خطوة أثناء التدريبات المسرحية حتي العرض، كل هذا يتطلب من المخرج نقدا ً معرفيا ً و احترافيا ً علي درجة كبيرة من الأهمية، فهو الذي يوحد أعضاء فريق العمل بأكمله ويمضي معهم إلي المراحل النهائية ، تلك التي يجدون أنفسهم فيها أمام الجمهور والنقاد معا ً.
وفي الحقيقة أن بعض النقاد المسرحيين المحترفين غالباً ً ما يسعون دائماً ً إلي معايشة العمل المسرحي ابتداء من القراءة الأولي للنص مرورا ً بالتدريبات المسرحية التي قد تستمر شهورا ً عدة، وذلك لدراسة الخط البياني لتطور عمل المخرج والممثلين ومجموعة العمل المسرحي ككل، والتعرف علي معاناتهم اليومية عن قرب وهم يبذلون جهداً ً إنسانياً ً استثنائياً ً كبيرا ً، لبلوغ غايتهم في تقديم عرض مسرحي قد يرضي الجمهور أو لا يرضيه، إذ أن هذا الرضا غالبا ً ما تكون له علاقة بالذائقة العامة للجمهور وبالأعمال السائدة التي تقدم في المسارح حينئذ ، و ليس بالقيمة الفنية العالية الموجودة في العمل المسرحي وحدها.
وبهذه الطريقة يتمكن الناقد المسرحي (الباحث) من تكوين رابطة سليمة مع كادر العمل المسرحي ومع الجمهور بحيادية تامة، وكل ذلك سيؤدي في النهاية إلي تسليط الأضواء علي معني الاحتراف في العمل المسرحي، ويؤدي فعلا ً إلي تعميق المعرفة للعاملين في المسرحية، وإلي المراجعة الذاتية لكل الأعمال المسرحية الماضية وأهمية تقديم ما هو جديد ومبتكر من أعمال إبداعية في المستقبل.
ولكن الكثير من الأعمال المسرحية الجيدة والمتطورة والسابقة عصرها قد ظلمت كثيراً ً في بعض المسارح العربية، وهذا قد تأتي بفعل تلك الكتابات ( الانتقادية) في بعض الصحف اليومية، تلك التي تشيد بهذا العرض المسرحي دون غيره بما لا يستحق، وتؤثر سلبياً ً من الناحية الإعلامية علي أعمال أخري جيدة ، وفقا ً لرغبات كتابية خارجة عن مفهوم الاحتراف، وليست لها أية علاقة بالمفاهيم العلمية للنقد المسرحي، بل بالأشكال الدعائية لهذا العمل دون غيره.
النقد والتواصل مع الجمهور
و عودة إلي الموضوع الرئيسي في هذه الدراسة، فأن النقد المسرحي (الاحترافي) هو الذي ساهم مساهمة فعالة في تطور الحركة المسرحية في أوربا والعالم المتقدم، نتيجة الدور الذي لعبه النقاد والباحثون الأكاديميون في رفع مستوي الوعي العام للمتلقين، كما أنه ساهم مساهمة فعالة في استمرار العروض المسرحية وتألقها وديمومتها حتي يومنا هذا، وستستمر هذه الحالة إلي النهاية، لأن النقد هو الذي يساعد كثيراً ً في تقوية الأعمال المسرحية ، والحفاظ علي رصانتها وتماسكها مهما كانت الظروف قاسية وصعبة، ومهما واجهت هذه المجتمعات مختلف الأزمات، فإن المسرح سيبقي ذلك الفعل الإنساني المؤثر والفعال في حياة الناس، لأنه فعل مباشر ذو قيمة إبداعية وإنسانية عالية.
وبالتأكيد فإن الناقد المسرحي في هذه البلدان قد تطور كثيرا ً مثلما هو الحال في تطور الحركة المسرحية ، وإذا كانت الحركة النقدية المسرحية قد انتشرت في عصر النهضة في بريطانيا وفرنسا و ألمانيا وحتي في روسيا، من خلال تلك الطروحات النقدية العالية المستوي، وتلك التحليلات المهنية لأعمال الكتاب المسرحيين الكبار الذين لا حصر لهم، فإن ذلك يعود بالفضل إلي النقاد والباحثين المسرحيين في تلك البلدان، الذين يتمتعون بمواصفات كثيرة منها الثقافة العالية وسعة الإطلاع وعدم الانحياز إلا للأمانة الموضوعية المهنية في كتابة النقد أو البحث الأكاديمي، و الذين كانوا ملمين بتفصيلات العمل المسرحي المهني، وبأساليب كتابة النص المسرحي و طرق التمثيل والإخراج . كل هذا قد ساهم مساهمة فعالة في تطور المسرح ومازال يساهم حتي يومنا هذا في هذه البلدان، بعد أن أصبح النقد المسرحي يدرس في كل الأكاديميات العالمية المختصة بعلوم الدراما المسرحية.
وبهذا يكون من غير المعقول أن يتطور العمل المسرحي بمفرده دون أن تشترك جميع تلك العناصر الفنية في تطويره، و من غير المعقول أن يتطور فن التأليف المسرحي وتتسع رقعته، أو أن تتطور أساليب الإخراج المسرحي بمعزل عن النقد المسرحي، باعتباره الوسيط بين العمل المسرحي وبين الوعي الاجتماعي للجمهور ، كما أنه من غير المعقول أيضاً ً في عمل الناقد المسرحي أن يكتب عن المسرح وهو لا علم له بالمتغيرات الحديثة التي تطرأ علي علم المسرح في هذا البد أو ذاك.
وخلاصة لما تقدم في هذه الدراسة الموجزة، فإنه يتوجب علي التأكيد علي أن النقد المسرحي هو الذي بمقدوره أن يجعل الأفاق رحبة ومضيئة للمسرح العربي وليست معتمة، في حالة توفر نقاد مهنيين محترفين، لهم علاقة بالعمل الفني الاحترافي ولهم دراية جيدة بعلم النقد المسرحي وتأثيره الإيجابي علي ذائقة الجمهور.
نقلا عن جريدة الزمان