تفسر الفلسفة الابداع بانه نشاط هادف يهدف الى الوصول لشيء جديد، وليس تكرارا لما سبق وان وصل اليه الانسان سابقا. ويهدف الابداع الى استيعاب الثروة الثقافية للمجتمع وعدم العودة الى ما سبق وان طرح الا للمقارنة بين ما كان وما هو قائم اليوم. الابداع هو نقيض للتكرار ونقيض للتمسك برؤية لا تتفاعل مع حركة الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي المتجددين باستمرار. والفكر الإبداعي يرتبط فكريا وفلسفيا بفلسفة “علم الجمال” التي تثير في نفس الانسان مشاعر الحب النزيه والسرور وعشق الحرية والدفاع عن كل ما جميل ومتطور وانساني .
والآن الى التفاصيل.
قرأت قبل أكثر من سنة دراسة نقدية بكتاب انيق جدا، تناول كاتبها موضوع “العنوان”. الدراسة لم تضف شيئا للقارئ-لأسباب عدة، أهمها:
أولا: العنوان هو نتاج النص وليس النص هو نتاج العنوان. وهذا الأمر لم يلفت نظر الناقد، وبرأيي غياب ذلك يبرز أن الدراسة لم ترق لأي مفهوم ثقافي او تنويري او جمالي، مهما حمل صاحبها من القاب وشهادات.
ثانيا: الناقد يعيد تدوير (تناول) نصوصا سبق وان عالجها نقديا قبل نصف قرن، دون أن يجتهد لاضافة نصوص جديدة وأرقى فنيا، وبالتأكيد عناوينها اقرب لجوهر المضمون. هنا لا بد من التأكيد ان صياغة العنوان هو تعبير عن قدرة صاحب العمل الإبداعي للربط بين سرده وفهمه ان العنوان يشكل الوعاء الهام لكل العملية الإبداعية والجمالية للنص، وف كل صياغة لأي موضوع آخر غير المادة الثقافية أيضا.
ثالثا: لم أجد علاقة بين فكرة الكتاب عن العنوان، وهي فكرة نقدية هامة بحد ذاتها وبين النصوص التي اختارها والتي يتخلف بعضها عن الإبداع القصصي الذي تطور في نصف القرن الماضي والذي يشد جمهور القراء لمتابعة الجديد الجميل والراقي.
مثلا الحديث عن موت انسان بحادث طرق يمكن ان يحدث في مليون مكان بكرتنا الأرضية. لذا الادعاء النقدي ان حادث طرق في حيفا هو تعبير عن أهمية حيفا بالعنوان، وكأن العنوان هو تعبير قصصي هام عن الزمان والمكان للحدث وبدونه تفقد القصة مضمونها، هو استنتاج شكلي بعيد عن فهم جوهر العنوان وعلاقته بالسرد القصصي في حالتنا. ربما أقرب للخبر الصحفي.
رابعا: نقل فكر نقدي من ادب أكثر تطورا في جميع مجالاته ومحاولة تطبيقه على أدبنا هي خطوة هامة، لكن باختيار نصوص قصصية أكثر حداثة في تركيبتها الإبداعية وفي قدرة الكاتب على فهم أهمية العنوان في سرده الثقافي، وليس تدوير قصص قديمة سبق وأن عالجها نفس الناقد بمحور آخر. والأهم أن يكون للناقد اطلاع واسع على مراحل التطور في قصتنا المحلية، ومعرفة الأسماء البارزة في قصتنا القصيرة،وهذا لم اجده مع الأسف. الناقد عاد لقصص أرى بها مستوى ما دون المتوسط، وبعضها يفتقد لأهم المركبات القصصية، الدراما في الحدث والدراما في النص. وعناوين لا علاقة جوهرية لها بالنص بشكل يعبر عن مضمون الفكرة القصصية.
الأسوأ ان المؤلف يعيد استعمال نصوص قصصية سبق وان عالجها سابقا في ثمانينات القرن الماضي بأسلوب تقليدي في وقته، أيضا لم اعتبره نقدا جيدا في وقته. وهي قصص اقل ما يقال عنها انها فنيا تعبر عن مرحلة تجاوزناها، حتى في زمن كتابة نقده القديم عنها. بعض من اختار أعمالهم طوروا أدواتهم القصصية، من ناحية الصياغة والفكرة وبناء الدراما، لكنه بقي على نصوص سبق وان عالجها سابقا. المهم هنا ان عناوينها لا تستحق جهد اصدار كتاب ضخم يعيد التعامل معها بأسلوب مختلف مع انها نصوص عتيقة وضعيفة بمبناها القصصي والفني، وعناوينها تتناقض تماما مع فكرة الكتاب والجهد النقدي لمؤلفه، الذي صاغه بكتاب خاص عن كتابات بعيدة جدا عن فهم جوهر فلسفة الإبداع. واضيف ان عناوين بعضها لا علاقة له بمضمون القصة نفسها وهو الفكرة النقدية للكتاب.
أوافق مع المؤلف ان العنوان له تعبير وارتباط فكري وبنيوي مع نص العمل. وهذا لم اجده بالنصوص التي عالجها. لا اكتب هذه الملاحظات النقدية إلا لأني أرى بالعنوان، للنص الأدبي او الفكري او الفلسفي او السياسي، عنصرا جوهريا يعبر عن المضمون الذي يطرح.
وأقول أكثر من ذلك، أحيانا، انا شخصيا، ابحث عن العنوان قبل ان ابدأ بصياغة المادة. بل واحيانا لدي عنوان يحتاج الى نص قصصي او غيره، لأن العنوان هو جوهر الطرح الذي يشغلني ليس اقل من النص نفسه. وهو نتاج الارتباط بالقضايا الثقافية والفكرية والفلسفية لمجتمعنا.
اذن ما هو دور الناقد بصفته أولا مثقفا ومفكرا؟
يقول إدوارد سعيد عن دور المثقف في كتابة “الآلهة التي تفشل دائما”، على المثقف أن يكون واع لكل التعميمات التي تحدث والأفكار التي تطرح من قبل وسائل الاعلام، المرئية، المسموعة والمقروءة، التي لا بد ولها توجهات وايدولوجيات معينة وافكار ربما تكون هدامة. على المثقف ان يفهم هده الافكار ويتنبه لها، وان يتصدى لما يراه منها ضار بالمجتمع وان يتكلم عنها وينبه لها، وان يكون البوصلة الحقيقية للمجتمع التي تسهم في اعادة توجيهه نحو الوجهة الصحيحة”. وهذا يصح أكثر في الابداع الأدبي. الموضوع ليس صياغة لا تعني في النهاية شيئا ملموسا او مثقفا او له مضمون جمالي يؤثر على القارئ، وهو ما تفتقده القصص التي تناولها الناقد في كتابه.
للأسف معظم القصص التي تناولها الناقد المحترم لا تثير أي حس جمالي لدى القارئ. ولا أفهم سببا لعودته لقصص سبق وان نقدها قبل نصف قرن، ليعيد تدويرها بكتابه الأنيق. اصلا فن القصة في ثقافتنا ارتقى بشكل كبير ومميز خلال الفجوة الزمنية التي انتجت بها القصص وعودته لها وكأن ادبنا لم يتقدم أي خطوة جديدة منذ تلك النصوص. فهل كان سعادة الناقد غائبا عن التطور القصصي الإبداعي برمته؟ او لم يقرأ ما هو جديد وجميل في قصتنا الحديثة؟
وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: هل من هدف غير النقد وراء إصدار الكتاب؟
مثل هذا النقد لا تشفع له الطباعة الأنيقة والورق الصقيل والغلاف الكرتوني الأنيق جدا للكتاب. وامتنع عن أي إضافة أخرى!!
هناك هوة غير قابلة للتجسير بين التشجيع، بإثارة الوهم بالاكتمال، وبين ادعاء النقد الذي يرتكب فيه الناقد خيانة لثقافته ولجمهور القراء. لم نعد في عصر يسحرنا المؤلف بأناقة كتابه. هذه كتابة اقل ما يقال عنها انها تتعامل مع الثقافة من خارج الفكر الثقافي، دون اعتماد العقل والمنطق والقدرة على الربط بين النص والواقع. لا شك لدي ان للعنوان اهمية عظيمة. لا تقل عن أهمية العمل الإبداعي او الصياغة لأي موضوع آخر فكري او سياسي او علمي.
لكن مهزلة إعادة تدوير نصوص عتيقة بزمن كتابتها وبمستواها الفني الضعيف جدا، لا يبقي من قيمة للكتاب الا بأن يسجل كإنجاز آخر لصاحبه. ولا أرى ان القارئ العربي متعطش لمثل هذه الدراسات التي أهملت جديد الابداع وعادت لمرحلة بدايات تطور القصة القصيرة في ثقافتنا.
أهمية الكتاب هي بتعريفنا على فكر نقدي جديد يتناول العلاقة بين العنوان والنص. رغم اننا كأدباء نعيش هذه العلاقة،ربما دون ان نفكر فيها، لكن معظمنا لم يفكر ان الغرب أبدع تيارا نقديا بخصوصها، فشكرا لتنويرنا بالموضوع!!
طبعا اعمم لأني لا اريد الدخول لمضمون نصوص الكتاب والقصص التي تناولها، احتراما للناقد والزملاء أصحاب القصص.
رغم ذلك للكتاب أهمية انه ينبهنا الى قيمة العنوان في الإبداع الأدبي.
أهمية العنوان في الإبداع وقضايا نقدية أخرى
اترك تعليقا