صديقي العتيد المعتّق الطبيب الحاذق والموغلة علاقتي به من زمن الفتوّة والصبا ومازالت في أوج توهّجها ، هذا الصديق يتصل بي بين الفينة والفينة كلما احسّ بوجود وقت فراغ لديه وما أقلّ فراغهُ في غمرة انشغالاته الجمّة ، يتنقل من مشفى الى آخر وهو الأخصائي الضليع في أمراض القلب والأوعية الدمويّة لنقضي جلسات ومسامرات بصحبة بعض أصدقائنا القدامى فقد اعتدنا على أن نرتّب لقاءاتنا كلما أكرمَنا الوقت بفسحة من اللقاء ، ثم جاء زمن الكورونا الوغد ليزيدنا بعدا وتفريقا باستثناء اللقاءات الهاتفية ونصائحه الجمّة عبر الأثير خوفاً عليّ مما لا تحمد عقباه لو نزلت هذه الكورونا على صدري وأقامت ردحا في رئتيّ المتعبتين أصلاً جراء التدخين الهائل الذي أمارسه .
ومن طباع هذا النطاسيّ الصديق الحميم واهتمامه الملفت بي انه لايني يراقب وضعي الصحي باهتمام بالغ ويعمل على فحص ضغط الدم بنفسه كلما التقينا ، هذا الرجل الصديق المزدحم على الدوام والذي يندر جدا اللقاء به لكثافة عمله ؛ يحسب عدد دقات قلبي المتعب ويرغمني على فحص دمي من المختبر الملاصق الى عيادته دون ان يكلّفني مالا من جيبي الشحيح اصلا من اجل معرفة نسبة السكّري الذي لازمني طويلا ويوصيني بانتقاء ما أتناوله راجيا مرةً وحازما مرةً اخرى لو رأى مني هوانا او تكاسلا ويتندّر معي ساخرا قائلا لي : إنني طوع أمرك الآن .
لكن الغريب حقا ان صديقي النطاسيّ العزيز عليَّ لا يبدي ايّ اهتمام بوضعه الصحي المعتلّ هو الاخر ويتناسى انه مثلي مبتلٍ بدزينة من الأمراض الشائعة ونحن على اعتاب الشيخوخة وجسده صار مرتعا خصبا للأمراض وكلما اهمس في أذنه مشاغبا ومداعبا ان يلتفت الى نفسه أول الأمر غير انه يردّ عليّ مازحا بان باب النجار ستبقى مخلوعة وان حذاء الاسكافي الماهر سيبقى متهرئا ، ولا يخفي عليّ صراحته المعهودة بأنه اكثر سقماً من مراجعيه المرضى غير انه يتحامل على نفسه ويحمل عبء ما يعانيه جسدُه طالما ان مريديه المرضى هم بأمسّ الحاجة اليه .
ويعلل ذلك بقوله ان الاطباء المصابين بالسقام يمكن ان يكونوا أصعب أنواع المرضى تعاملاً لأنهم نادرا ما يراجعون زملاءهم ذوي الاختصاص ولا يأبهون بالعلل السود الكامنة وراء ملابسهم البيض لا يتعاطون الأدوية والعقارات التي يقترحونها ويصفونها لمراجعيهم ، كما أنهم أقلّ الناس ممارسة للرياضة وكثيرا ما تزداد معاناتهم النفسية عندما تبلغ بهم نرجسية التفوّق العلمي وقد تصل الى حدّ العجرفة والثقة بالنفس مبلغا ؛ إذ يعمدون إلى تناول الادوية بأنفسهم عند اقتضاء الحاجة دون استشارة زملائهم الاخصائيين ربما لشدة ثقتهم التي يتوهمونها إنها الأنجع والأكثر فعالية وقد يُكذّبون حتى نتائج التحليلات الخاصة بهم عندما تردهم من غرف المختبر ويبدو ان أمثالنا السائرة بين ظهرانينا لم تجانب الصواب حين تندّرت وتعجبت كيف ان ” طبيبا يداوي الناس وهو عليل ” .
وتبقى غرائب الحياة شائعة ومحيّرة حقا فالنجار الماهر الذي يلوي الخشب الصلب ويلينه باحتراف متقن قد يصل حدّ البراعة وبلمسات فنية تخلب الانظار وتسحر الالباب يعجز تماما عن اصلاح باب بيته المتهالكة وكذا الاسكافي الذي يفهم تماما ان اناقة الانسان تبدأ من حذائه اولا لكنه لا يفلح ابدا من ان ينتعل حذاءً جميلا مريحا وتراه يبخس على نفسه جديدا ويقنع ذاته ان يلبس حذاءً طنبوريا تالفا مع انه يشغل كلّ ذهنه ومهارته لتصميم احذية فيها من الابتكار والصنعة الحسنة الشيء الكثير مثل حال صديقنا الطبيب اللوذعي الذي لا يعبأ ابدا بوضعه الصحي وكلّ اهتمامه ان يرضيني ويرضي مراجعيه المرضى المبتلين بالأسقام .
ويبدو ان معظم الأشخاص – أصحّاء كانوا أم مبتلين بالسقام – لا يتصرفون بعقلانية تجاه صحتهم بما في ذلك ممتهنو الطب البشري وما يتعلق بهم من صيادلة وممرضين وذوي المهن الصحية إذ إن سلوكهم الخاص تجاه صحتهم ليس خاضعا للعقل الاّ بنسبة قليلة جدا ومن النادر جدا ان ترى أحدا يفكّر في إضافة خمس او ست سنوات الى عمره لو التزم بوصايا ونصائح الناصحين ذوي الخبرة والاختصاص الطبي .
فمن منّا نهض صباحا ليمارس رياضة الجري والهرولة سواء كنا فتيانا او في مراحل العمر المتأخرة او انتقى طعاما صحيا بحسابات السعرات الحرارية وفق مقادير محسوبة ، وحتى لو مارسناها أمدا محدودا فإننا نادرا ما نواظب عليها لتكون عادة متّبعة متداولة يوميا وكم عجزنا عن إقناع أولادنا الشباب للإقلاع عن التدخين او الحذر من السمنة المفرطة مع اننا نمتلك البراهين والأدلّة على خطورتها ودنوّها من الموت لكننا ننعطف كثيرا للاهتمام بصحتنا حينما ينذرنا العطل او يقتحمنا المرض المفاجئ وتبدأ التوقعات السيئة بالظهور الى العلن مما يعني بجلاء إننا لا نفكّر بأوضاعنا الصحية مبكرا ونفتقد الرؤيا العلاجية على المدى البعيد واعتقد جازما ان هذا الحال جزء من تكويننا النفسي وقد أكون انا وصديقي الطبيب الماهر من هؤلاء الذين لا يبالون بعافيتهم الاّ بعد فوات الأوان
ومن الحالات التي تبعث الراحة في نفسي حينما ارى البعض يسابق ظهور الأمراض وأوجاع الشيخوخة ويعمل على تعطيلها مدة أطول ويولي اهتماما ملحوظا بعافيته ليكسب مزيدا من سنوات العمر لحياته من خلال ترويض نفسه وانتقاء الطعام الأفضل لغذائه الصحي والنأي عن كل ما ينغّص مجرى حياته لتكون سلسة وضّاءة مستبشرة يعيشها بهناء لما تبقّى من العمر ويسير في مسالكها غير الوعرة وكأنه في مشوار عشق للقاء من يحبّ .
وكم ستكون حياتنا بهيجة لو استمررنا على هذا المنوال ، وهذا ما أوصاني به صديقي الطبيب دون أن يوصي نفسه أولا فهذه غرائب الحياة ان يهتمّ الإنسان بالآخرين ويغفل ذاته ولا ادري هل فات الأوان أم مازال في العمر بقية لنعيشه على أفضل ما يرام .
أنا وطبيبي صديق الشباب والكهولة
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا