أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم !
احسان جواد كاظم
بيت الشعر المشهور للمتنبي أبي محسب أحمد بن الحسين الجعفي هذا, يمكن ببساطة تذييله بأسم مظفر النواب, دون تردد !
باعتباري متذوق ومتابع مزمن للشعر بأنواعه.. أحس, فطرياً, بالشاعر الذي يرقّص الكلمة ويداعب شغاف القلب.
كلاهما كان عظيماً ومتميزاً في شعره, نالا إعجاب الأجيال, ووصلت أشعارهما أطراف الأرض ونواحيها, سمعها المحب والمبغض, ولا يمكن لأحدٍ أن ينكر شعريتهما الآسرة.
ظروف حياة الشاعرين تكاد تكون متشابهة رغم اختلاف الحقب الزمنية التي عاشا فيها, حيث الاحتدام الحضاري و الاضطراب والتوتر الاجتماعي وصراع القوى الحاد.
فبينما عاصر المتنبي زمن انحسار الدولة العباسية وتناثرها إلى إمارات ودول متخاصمة في الشام ومصر.. وظهور الحركات الاجتماعية النازعة نحو التغيير والعدل الاجتماعي, كالقرامطة.. إضافة إلى تهديدات الروم المتكررة لثغور الدولة.
فإن مظفر النواب عايش فترة الاحتدام الداخلي وتجبّر الاقطاع المدعوم من المحتل البريطاني, وانقلابات العسكر الاولى ومؤامرات القصر, ونقيض كل ذلك, تنامي الفكر الثوري والوعي الاجتماعي الذي ترجم إلى انتفاضات شعبية وهبّات جماهيرية, شارك فيها باندفاع, وما كابده أثرها من مطاردة وعسف وإبعاد وسجن, حتى قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨, حيث عاش العراقيون في سنواتها الأولى شيء من الهدوء, ولكن انتكاستها بعد انقلاب ٨ شباط الفاشي ١٩٦٣, رسم ملامح تحدي جديد, استمر طوال القرن العشرين, وعلى ذات المنوال عاش حياته رافضاً للظلم وساعياً لحرية شعبه.
لا أريد الإسهاب في سرد تاريخه وأكرر ما كُتب وقيل, خصوصاً واننا لازلنا في أجواء تشييعه ورثاءه.
وإذا كان المتنبي قد اتهم بممالأة الحكام من خلال قصائد المدح لبني حمدان وبعدهم كافور الإخشيدي حاكم مصر, مجبراً.. دفعه عدم رضا الأمراء والسلاطين عليه إلى الهروب من عسفهم, وكذلك مضت حياة مظفر النواب بين الملاحقة والهروب, لكنه غادرنا نقياً من اعطيات او مدح ملك او رئيس دولة.
أصبح استلهام نص أي قصيدة او جزء منها في عمل فني موازٍ – تمثيلي, نحتي او تشكيلي… ممكناً في عصر تنوع أشكال الإبداع والمواهب وتقنيات تنفيذها.
لم تتحول قصائد المتنبي إلى لوحات تشكيلية معاصرة, ربما فقط في فن الكاليغرافي, لوحات الخط العربي.
ولكني وقعت, سبعينيات القرن الماضي, على لوحتين مستلهمتين من إحدى أجمل قصائد مظفر النواب. لم تُزين اللوحتان جدار كاليري فن تشكيلي ولا باحة فندق فخم, بل جدار غرفة صغيرة في بيت كادحين بغدادي في منطقة الرحمانية, مجاورة لصورة ” فهد “, بريشة طالب علوم سياسية حينها الصديق العزيز عارف ( لا اريد ذكر اسمه الكامل دون تخويل منه ) مستوحياً لوحته من قصيدة النواب ” عشاير سعود ” :
” تتجادح عيون الخيل
وعيون الزلم بارود
وياخذنا الرسن للشمس
من زود الفرح ونزود “…
كنت ابحلق في عيون الفارس وحصانه المحمّرة, وحركة رأس الحصان المشرئبة نحو الشمس وجسد الفارس المنحنية, قابضاً برسن فرسه الجامحة.
اللوحة التالية ابدعها نفس الفنان ومن مقطع آخر من نفس القصيدة :
” سعد يسعود يمصنگر
عله الحومة غضب أرگط “…
جسّد فيها سعود, متأهباً كصقر على قمة مرتفعٍ من الأرض, مترقباً مجيء ” الحوشية والشرطة, كما قال النواب في قصيدة أخرى له ” مسدداً بندقيته نحوهم, ومعالم الغضب بادية على عينيه بشرايينها الحمراء الظاهرة.
ابهرتني اللوحة بتجسيدها لمفردة النواب المتفردة ” غضب أرگط ” على كلاب السلطة, كما غضب أفعى رقطاء.
وإذا كان أبو الطيب المتنبي ” ماليء الدنيا وشاغل الناس