مهندس طيران ناجح تسبّب في قتل سبعة أشخاص بسيارته. أظلمتِ الدنيا أمام عينيه وفكّر ماذا يفعلَ، ليخرجَ من خندق الشعور المُّر بالذنب. لو أنهى حياته، قد يستريح من عذاب الضمير، لكنه لن يُعيد للحياة سبعَ أرواح أزهقها في لحظةٍ، غفل فيها عن قواد سيارته. قرّر الشابُّ أن يقتطع من جسده سبعة أعضاء حيّة ليهبَها لسبعة مأزومين ينتظرون الموت. وكأنما يقايضُ الحياةَ: استلَّ منها سبعةَ أرواح، فيمنحها بالمقابل سبعةً أخرى. سبعةُ أعضاء من جسده وزعها على هذا النحو: شقيقُه، المصاب بسرطان الرئة، منحه جزءًا من رئته، ومنح سيدةً فَصًّا من كبده. وبعدما تعافت دلّته على سيدة تقاسي بطشَ رجل يستعبدها مع طفليها، فمنحها منزله الجميل على شاطئ الأطلنطي. ثم منح إحدى كليتيه لرجل مصاب بالفشل الكلويّ، ثم رقد ساكنًا ليمتصَّ الأطباءُ النخاعَ من عظامه بمحقن غليظ، معاينًا ألمًا تنوء عنه الجبال، ليحقنوه في جسد طفل مصابٍ بسرطان النخاع. وفي الأخير وقع في هوى شابة تعيش آخر أيامها، بسبب ضعف وراثيٍّ حادٍّ في عضلة القلب. فكر كيف ينقذها من الموت. رجع بذاكرته إلى طفولته، حينما اصطحبه أبوه إلى الأكواريوم لمشاهدة الأسماك، شاهد قنديل البحر Jellyfish، وافتتن بجماله وليونته الفائقة وجسده الهلامي الشفاف، وقال لأبيه إنه أجمل مخلوق وقعت عليه عيناه، فأخبره أبوه أن هذا الكائن الفاتن يحمل في جسده أشد السموم فتكًا. فقرر أن ينقذ حبيبته بمساعدة قنديل البحر القاتل. أحضر حوضًا ضخمًا من الزجاج، وراح يربّي قنديل بحر في غرفته. زار حبيبته على فراش الموت في المستشفى ثم ودّعها وعاد إلى بيته. ملأ البانيو بجرش الثلج ورقد حتى غمره الماء الثلجيّ. وبعدما تخدّر الجسد، جاء بقنديل البحر ليسبح جواره ويلسع معصمه لسعةً سامّة، بعدما اتصل بالإسعاف ليخبرهم أنه ينوي الانتحار. نُقل إلى المستشفى في محاولة يائسة لإنقاذه. وهناك وجدوا الوصيةَ التي أعلن فيها تبرعه بقلبه إلى حبيبته المحتضرة، لتبدأ حياة جديدةً بقلب سليم، أنهكه الإيثار والشعور بالذنب. بهذا يكون قد منح أشخاصًا ستة، ستَّ قطعٍ من جسده كعطايا لا تُرّد. أما القطعة السابعة، فكانت عينيه، اللتين تبرع بهما لشابٍّ جميل كفيف، موسيقيٍّ موهوب. حدث هذا في الفيلم الأمريكي الموجع: “سبعة أرطال Seven Pounds” بطولة “ويل سميث”.
لكن أحداثًا مشابهة حدثت في الواقع كذلك. صبيّةٌ بريطانية صغيرة في الثالثة عشرة من عمرها اسمها “جميما لايزيل” Jemima Layzell، توفيت عام 2012 بسبب تمدد الأوعية الدموية في الدماغ. لكنها أوصت قبل رحيلها بالتبرع بأعضائها لمن يحتاج إليها، فأنقذت بذلك حياة سبعة أشخاص على وشك الموت، من بينهم خمسة أطفال، منحتهم من جسدها النبيل: القلب والرئتين والكليتين والبنكرياس والكبد والأمعاء.
في حفل جميل حضرناه الأسبوع الماضي في “قصر عابدين” العريق، أطلق الكاتب الصديق الطبيب “خالد منتصر” مبادرة تحُثُّ المثقفين على تكريس ثقافة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة لدى المجتمع المصري؛ لأن مصر قد تأخرت كثيرًا في إنشاء بنك للأعضاء البشرية، على غرار معظم دول العالم والعديد من الدول العربية الشقيقة. وقال الشيخ “خالد الجندي” عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إن التبرع بالأعضاء ليس حرامًا، بل هو أمرٌ محمود وطيب وتساءل: هل هناك أسمى من إنقاذ حياة إنسان؟ إنها رسالة كبرى وهي تطبيق للآية الكريمة: “ومَن أحياها فكأنما أحيا النَّاسَ جميعا”/ سورة المائدة. وأعلنت الفنانة “إلهام شاهين”، والنائبة “فريدة الشوباشي”، والمخرج “محمد العدل” والفنان “صلاح عبد الله”، وكثيرٌ غيرهم من الشارع الثقافي والفني تبرعهم بالأعضاء بعد الوفاة، لصالح المصابين والمرضى وللدراسة في كليات الطب. لابد أن نُقرَّ أن وجود بنك للأعضاء البشرية وبنوك للقرنية في مصر، سوف يخلق قناة شرعية ونبيلة لتيسير نقل الأعضاء للمرضى والمحتضرين، وهو كذلك السبيل الأوحد للقضاء على جريمة الاتجار بالأعضاء واختطاف الأطفال لسرقة أعضائهم.
أجسامُنا البشرية ثروةٌ ربانية عظمى يمنحُها الُله لنا لنحيا، ثم يكون مثواها التراب. فهل أرقى وأنبل من أن نمحها سنواتٍ إضافيةً مع إنسان كسير يتعذب؟! يقول الجدُّ المصريُّ القديم في اعترافاته الإيجابية: “كنتُ عينًا للكفيف ويدًا للمشلول وساقًا للكسيح.” وهذا المعنى المجازي النبيل، قد يتجسد عمليًّا في إقرار المُشرِّع المصري إنشاء بنك للأعضاء في مصر النبيلة التي علّمت العالم قانون الإنسانية في فجر التاريخ. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يعملُ لصالح الوطن”.
***
أنا أتبرّعُ بأعضائي بعد الوفاة
اترك تعليقا