هادي عباس حسين
الليلة الأربعين مضت بعد أن سمعت في يومها الأول قرار القاضي بالحكم المؤبد كانت تهمتي ارتباطي بشبكة التجسس لصالح إسرائيل ,وأنا بعيدا عن التهمة التي ثبتت كليا على رجل مثلي مسالما قضى سنوات عمره في خدمة الوطن الذي أصبح ألذ أعدائه,لم أتصفح في عمري المنصرم جريدة ولا أجول في حديث السياسة حتى الدين لن تربطني به سوى ايداء فرائضه وواجباته كالصلاة والصوم وحج بيت الله الحرام ولن ازكي لأني لا أجد ما يفيض من أموال استلمها كرواتب عن ايداء وظيفتي كمعلم تخرجت على يدي أجيال وأجيال ,لا اقدر أن أتصور إنني سقطت في وسط شبكة تعمل إلى اليهود التي كانت بداياتها بلقاءات بسيطة متمثلة بإبداء المساعدات المالية لرجل فقير مثلي ,الذي كان وسيطا بيننا لعله صعد إلى المشنقة وحز رقبته الحبل ولعنه الله فهو من سحبني إلى هذا الطريق التي نهايته أرحمتني ببعض الشيء وصدر قرار القاضي بالمؤبد ,في بداية الأمر عندما سمعت به ارتعبت وأصابني الخوف الكبير وتمنيت أن أشارك ما أصاب الأستاذ عدنان الذي عرفت فيما بعد هو المسؤول عن شبكتنا ,رضيت بالصعود إلى المشنقة لينتهي المطاف بلقاء الله الذي يعرف بدواخلي من أسرار ,الفقر يقود إلى الهلاك والموت والعوز والحاجة تدفع الإنسان أن يكون كالأعمى الذي فقد بصره توا ,لا يتحمل الصدمة أبدا ولا يصدق أن لن يرى ثانية ,الدم يتدفق في شراييني بطريقة عجيبة ودقات قلبي تتسارع ,لالتفت إلى الجدار ,ماذا أرى كلها أسماء البعض منها خط بصورة جميلة والأخر بصورة عشوائية,آه الذي يلفت انتباهي أسماء قرأتها بعين مهتمة أنها لنساء سعاد نادية أسماء أضواء شيماء و.و..و..
نهض الذي نام بجواري وامسك القلم واختط بقلمه وبصورة جلبت اهتمامي
_فديتك …يا فاتن …
كان خطه أكد لي بأنه ماهرا وخطاطا متمكنا,عند عودته اخذ بأطراف أصابعه المرتجفة سيكارته وأشعلها بطريقة عبثية ,حتى دعاني أن اسأله
_هل حقا فديتها ..؟
التفت لي مبتسما وبضحكة عريضة أجابني
_نعم ,افدتيها بسنوات عمري أكملها….كانت هي النور الذي أرى الأشياء بها,والطريق الذي أسير فيه ,أنها كانت تمثل لي كل شيء …لكنها تركتني ورحلت..
قلت له بعد أن نفخ زفيره المملوء بالدخان في وجهي
_كيف تفديها ولن تترجاها أن لا ترحل ..؟
_لقد قتلتها بيدي خنقا حتى آخر أنفاسها تلذذت بلحظات موتها…خائنة
ارتعد جسدي لما سمعته وأصداء أنفاسه تتصاعد ولهثاته تتزايد وعينيه الواسعتين ازدادت توسعا فبدئ لي وجهه غير مألوفا فتركته وبقيت أتمعن في ذلك الاسم الذي اختطه بتمعن وتدقيق,أنها فاتن وأم أولادي فاتنة التقارب واضح وكان فيه دلائل تجعلني اكونا كثر ميولا أن اطلب إليه أن يكتب لي (انتظريني يا فاتنة) لكن كيف لي أن اطلب منه وهو في حالته الصعبة,أربعين يوما لن أجده يريد أن يتحدث مع أي إنسان حتى أنا الذي أمسيت بجواره ,عدت لأراه مرة أخرى فقد وجدت عيناه ملئت بالدموع,كلها من أجلك يا فاتن يا من توسدت التراب وانتهيت من دنيا مرة وصعبة ,إنسان ميت والنفس يتحرك دون معنى او أحساس بالبقاء ,حدقت في تقاطيع وجهه ازدادت سوءا حاولت أن التكلم معه لكنه أدار وجهه إلى الجدار متمتما بكلمات لن افهم منها ألا فاتن ,انه متراخي وضعيف والوهن سيطر عليه حتى لن يقدر ان يحرك شفتيه ولافكه وقد غطت بصيرته طبقة بيضاء يحدق بها بصعوبة ,سمعت الكلمات تخرج من أطراف فمه قال لي
_أني لم اعد أرى أي شيء…أين أنت يا فاتن لم أراك ..تعالي وهوني علي ما فعلته بك ..أريد جسدك الذي اكتنزته عذوبة أنثى بقوامها الطويل وشعرها المرسل على الأكتاف وشفاهها التي تطلب المزيد ..اقتربي لي …أرجوك ..
العرق يتصبب من جبهته وجسده بات باردا جدا ,صرخت بأعلى الصوت
_تعالوا إلى هنا ,أن الرجل بداء يموت بالتدريج,أنها لحظات قهر وألم وقساوة زمن ظالم ,
لا أحدا يتحرك نحوي وكان الزنزانة باتت علما ضيقا وأنفاسي تخرج بصعوبة,فجأة امتدت ذراعه وتحرك جسده الحركة الأخيرة لكن الابتسامة ارتسمت على شفتيه ,كان حديثه الأخير طويلا منذ أن تعرفت عليه ,إني أتذكره اليوم بعد أن فقدته بسرعة مذهلة يوم أمس ,كان حبنا لاسم واحد أذاقني المرارة كوني لم اقترب إليه طوال الأربعين يوما التي مضت ,هو الأخر لحق بمحبوبته تاركا ورائه العبارة التي أحببتها ,لكن ما افعل بها فالذي كتبها مات وانتهت معه الحكاية ,كما أنهتني حكاية حكمي السجن المؤبد ,اقترب لي جليسا شاركني بالجوار ,همس في أذني
_كم سنة الحكم عليك .؟
قلت له وبعصبية
_إلى أن أموت..
_قل إنشاء الله الفرج ..
أجبته بصوت خافت
_إنشاء الله الفرج..
عند انقضاء نهار اليوم ,وبنهايات ساعات الليل والكل نائمون ,أمسكت بقلم المرحوم واختطيت عبارة (انتظريني يا فاتنة) لم يكن جيدا لكنه وفى بالغرض,فدارت أسئلة عند صبيحة اليوم الثاني بالقول
_انه جاء واختط العبارة الثانية أنها بجوار عبارته الأولى…
كانت من أمنياتي كمتهم بالجاسوسية أن تتحقق ,وعندي الأمل الذي في داخلي لن يموت…..أن أكون حرا…