أمـَّة قـَزّمها الجـَهل .. والجـَهـَلة.. والتجاهـُل
الدكتور عبد القادر حسين ياسين
انشغل المثقفون العرب في مطلع الستينات بمحاولة الإجابة على هذا السؤال الذي التقطوه من كتاب جان بول سارتر (ما هو الأدب؟)، وانهمكوا في حوارات، وسجالات، منطلقين، ومنحازين لوجهات نظر سياسية واجتماعية: لماذا نكتب، ولمن؟.
كانت الكتابة آنذاك جزءاً فاعلاً، وتعبيراً عن حاجة ضرورية للمساهمة في المخاض العام، وهذا ـ في رأيي المتواضع ـ يعود إلى بشائر حالة نهوض عربي قادته مصر الناصرية، ومع شيوع الفكر الاشتراكي، وقوّة حضور حركات التحرّر المناهضة للاستعمار في أفريقية وأمريكا اللاتينية، وجنوب شرقي آسيا.
آنذاك كان من يطرحون السؤال ينطلقون من البحث عن دور الكاتب، ووظيفة الأدب، وليس تشكيكاً بقيمة الأدب والكتابة، وإن اختلفت التوجهات، والمنطلقات بين من تأثروا بالفكر الاشتراكي، ومن تأثروا بهبوب رياح الوجودية، ومن انطلقوا من رؤية استقلالية عربية في المؤثرات الوافدة.
وحتى لا أغرق في التنظير، ورغبة منّي بالدخول في صلب الموضوع مباشرة، فإنني أذكّر بأن الناشر العربي كان يطبع من رواية لكاتب في بداياته ثلاثة آلاف نسخة في الطبعة الأولى
وقـد سمعت الكثير من زملائي المبدعين يتذمرون لضآلة عدد النسخ التي تطبع من أعمالهم، وذهابهم للتشكيك في “ذمة” الناشر العربي ونزاهة تعامله معهم!.
مضى ذلك الزمن السعيد، الواعد، زمن طباعة ثلاثة آلاف نسخة من الرواية الأولى في طبعة أولى، وحقوق تأليف لا بأس بها مقارنة بهذه الأيام حيث ينشف ريق المبدعين وهم يبحثون عن دار نشر “محترمة” تتبنى نتاجهم، بعد أن ضاقت الحدود، واستشرست الرقابة، وشحّ عدد القرّاء العرب، وتفشّت الأميّة أكثر من السابق، وتعمّقت الإقليمية وحالة الانغلاق التي تريح الحكّام والأجهزة القامعة، وعمّت البطالة، ونقص دخل الفرد العربي حتى عن مستوى دخل المواطن في دول الصحراء الأفريقية رغم توفّر الثروات النفطية العربية!.
ما عدت أسمع من أي ناشر عربي عندما يتطرق لموضوع الطبع والتوزيع سوى رقم واحد: ألف نسخة هو ما نطبعه من أي عمل أدبي، روائي، أو قصصي، أو ديوان شعر جديد لأحد الشعراء اللامعين.
أمة من 400 مليون إنسان تقرأ ألف نسخة من رواية (ما)، وإن طبعت مرّة، أو مرتين، أو ثلاثة فلا يزيد عدد النسخ الموزّعة عن أربعة آلاف نسخة وعلى مدى ثلاث أو أربع سنوات!.
لماذا نكتب ، ولمن نكتب، وما هي الحوافز؟!
ما يثير دهشتي أن بعض الناس يسألونني: ها، ماذا لديك من جديد؟!
ولا أغالي إذا قلت أن هذا السؤال ، بأي صيغة طرح، بات يحزنني، ويستفزني، ويؤلمني كما يؤلم كثيرين غيري.
يكتب الروائي العربي ـ مهما كان مستواه الفني ـ روايته في سنة على الأقل، ثمّ يدور بها على الناشرين فلا يواجه بغير الصدود لأنه لا اسم له ـ وهل حالة من لهم أسماء أفضل؟ ـ وقد يضطر إلى أحد خيارين: أن يلقي بروايته في عتمة النسيان، أو يدفع من جيبه وقوت أسرته مبلغاً لتشجيع الناشر الذي لا يغامر بتبني عمل لكاتب غير مشهور.
لا يجب أن يذهب الظن والاتهام إلى الناشر العربي، وتحميله وزر ضآلة انتشار عادة القراءة، فالناشر “تاجر” وهذه الصفة لا تعـيبه، وعمله ربح وخسارة، وهو يحجم عمّا يفاقم خسارته، وعادة لا يدّعي الناشرون أنهم إنما يعملون خدمة للثقافة دون التفكير بالربح والخسارة.
عملية النشر تخضع للعرض والطلب، تماماً ككل شروط العلاقة بين المنتج والمستهلك، ولذا فالعملية معقدة، والقارئ هو الذي يحدد الانتشار أو الانحسار.
ولأن هذه العملية تحتاج لدراسات موسّعة لست أتنطع لها، فإنني من موقعي ككاتب بدأت أتساءل ومنذ سنوات: لماذا أكتب وأتعب نفسي، أبحـاثـا تستهلك أعصابي ووقتي وتنهكني، ولمن، وما الفائدة المرجوة للقرّاء، ولي شخصياً؟!
بعد أن قرأت حيثيات رفض القاص المغربي أحمد بوزوفور لجائزة الإبداع الأدبي المغربية الرسمية، وجدت في حرقة رسالة الرفض التي كتبها ما يعبّر لا عن حالة الكاتب في المغرب، ولكن في العالم العربي ، مشرقاً ومغرباً، فكلنا نكتب بلا مردود مادي مجز، وبلا فاعلية (انتشار)، وبلا تقدير لائق كما هو الأمر في بلاد العالم ولدى الأمم التي لا يغرق مواطنوها في الأميّة والجهل والفقر والخوف، وكل صنوف الإجحاف والعـُسف.
لـقـد توقفت مليـَّـا عند قراءة التقرير السنوي الذي تصـدره “منظمة الأمم المتحـدة للتربية والعلوم والثقافـة” (اليونيسكو) حول الإنتاج الفكري والأدبي في العالم… ففي إسبانيا ، على سبيل المثال لا الحصر ، التي لا يزيد عـدد سكانها عن عـدد سكان المغرب يطبع أحياناً من رواية ما مليون نسخة، بينما في العالم العربي كله يطبع من الرواية ألف نسخة ـ بما في ذلك مصر المحروسة “أم الدنيا” ـ وإذا ما عرفنا أن عـدد الأميين في العالم العربي يزيد عن 80 مليون (فـقـط..!!) نـدرك عـنـدها موطن الداء في أمـة تزعـم أنهـا “خيرُ أمـَّة أخرجت للناس..!”
الكاتب العربي ليست مسؤوليته أن ينهي الأميّة، وينشر عادة القراءة، فنشر التعـليم واجب الدولة، وترويج الثقافة وجعلها همّاً إنسانياً وبرغبة ذاتية، وتعبيراً عن احترام الإنسان لنفسه، وتعلقاً بالمعرفة التي تميّزه عن البهـائم هي في جوهر مسؤوليات الدولة أي دولة، وهي تبدأ من المدرسة، والبيت، وبالتأثر بالمجتمع المحيط.
لقد مرّ بوزوفور على ذكر زميلة كاتبة تعاني من المرض ولا معين لها، وسخر من تكريم المبدعين بعد موتهم، وهو بهذا وضع الإصبع في الجرح، وهنا أتوقف لأذكّر القرّاء العرب ببعض المبدعين الفلسطينيين الذين ماتوا في المنافي ولا معين لهم، وكان من الممكن إنقاذ حياتهم لو وجدوا العـناية بهم، وبالمناسبة فقد أهملت أسرهم، وذكراهم بعد فترة وجيزة من موتهم.
رحل الشاعر الفلسطيني فوّاز عيد في دمشق بجلطة دماغية، وكان يعاني من ضغوط الحياة عليه، وقلة الدخل التي تكفل له ولأسرته الحـد الأدنى من الحياة الكريمة!
ورحل الروائي والقاص والمترجم أحمد عمر شاهين بالجلطة في مصر، ولم تجـد أسلاته حتى ثمن الكفن…!
ورحل الشاعر الكبير محمد القيسي بالجلطة ولم تجد أسرته ألف دينار لتسـديد نفقات المستشفى ، وظل مهملاً مجلوطاً طيلة 24 ساعة بانتظار وصول كتاب من وزير الثقافة في السلطة الفلسطينية يوصي بمعالجته، وهكذا مات إكلينيكيا، و.. رحل، وما زالت أسرته حتى اللحظة تنتظر أن يصلها راتبه.
ورحل الشاعر غازي الناصر في درعا بسورية بالجلطة، ورحل أيضاً الشاعر والروائي عدنان عمامه بالجلطة، ورحل القاص والمترجم والأكاديمي محمود موعد بالجلطة الدماغية، ورحل الشاعر عادل أديب آغا بالجلطة، وهؤلاء رحلوا ولم يبلغ أحدهم الستين من عمره! ويا للعجب رحلوا بالجلطات!..
كل هؤلاء رحلوا في ريعان شبابهم، وأوج عطائهم، وأذكّر بأننا نحن الفلسطينيين يفترض أننا نخوض معركة ثقافية مع عدونا، فأين العناية بالمبدعين، وبالثقافة؟.
دائماً كانت مشكلتنا مع جهلة لا يقدّرون دور الثقافة في معركة وجودنا، والحفاظ على هوية وتواصل شعبنا المبعثر في الشتات، والممزق داخل الوطن تحت الاحتلال.
إذا كانت الرواية، أو مجموعة القصص، أو ديوان الشعر تطبع بألف نسخة، ولا يوزّع منها أكثر من خمسمائة، ويأكل العفن النسخ الباقية، فلماذا نكتب، ولمن؟!
تعالوا نتساءل: حقاً، لماذا نكتب، أنحن مرضى بالكتابة؟! أترانا ما عدنا نجيد غير الكتابة، وأننا نجد أنفسنا فيها، وأننا متصوفون بحبها، مفتونون بها، شغوفون بحبها العذري؟!
إن ألمنا من تردي الحال العربي على المستويات كافة، وفي مقدمتها فضيحة الواقع الثقافي، لن تدفعنا إلى الإضراب عن الكتابة، رغم أن بعضنا يفعل وهو معذور.
أحمد بوزوفور يا صديقي: ماذا كتبت لنا؟!
ما جديدك من القصص القصيرة لأمة قصيرة القامة بين الأمم؟!
أمة قزّمها الجهل والجهلة والتجاهل..