رحاب حسين الصائغ
برتابة أغلقت المذياع، ووضعت جسدي في مواجهة الشباك الذي قرب سريري، دخان مسامات تتسلق منافذ وحدة قاتلة تتمسك بالصمت. ما الذي يحدث؟ كل شيء يفقد صوابه حتى النوم، نهضت فزعة لا أريد الاستسلام، أخذت كتاب من رفوف مكتبتي للشاعر عبد الوهاب ألبياتي كان (سيرة ذاتية لسارق النار) استسغت من القصائد ما أنساني الليل المضني، والذي حدث داعبني (المخاض) عنوان لقصيدة وما للمخاض من سطور محاكة لتلك القصيدة التي يقول في المقطع الأول منها:
(1) قال: اقتليني، فأنا أحب عينيك
ومن أجلك أبكي
كانت الكنائس القوطية الحمراء في بطاقة البريد
تستحم بالشمس
وبيكاسو غلاف العدد الأخير من مجلة “الحياة”
يرنو لضياء العالم الأخير
لغة تملك اعترافات، كأنه يقول: لا أستطيع ممارسة الحياة مع الأشباح. بريق الأمل في العودة خفت لمعانه وسأعيش وعصر ممتد فيه المخاض، على ما لا نهاية، ألبياتي شعره كمسحة قطن فوق خدش عميق، ولكن القطن بلا معقمات، بل مبلل بعذابات عقيمة ترفل بظنون رؤوسها عارية إلا من أسنان الظلام، ألبياتي يريد البوح بالمخاض القادم، لذا نجده في المقطع الثاني من قصيدة المخاض:
(2) قبل أن تولد في ذاكرة البحر وفي ذاكرة الورود والعصفور
ماتت على النوافذ وفي الدفاتر الوحشة: نيسابور
تاركاً حضورها الغائب في حدائق الليل وفي أجنحة الزهور
صوت يحرك الزمن في مكان ما، نظراته تعكس أرث مؤلم
اصطحبه منذ الولادة مبحوح بمبررات لا بعزلها عن العالم
قوام المقطع الثاني، يواصل الظهور بشعرية شمولية لذات أنيقة يرحل فوق جسد عرف سيئات المخاض، والمخاض حالة الولادة، والمرأة تمر بالمخاض وهي أعسر مرحلة من مراحل الحمل والولادة، وسمات المخاض معاصرة للألم الممتزج بالفرح المجهول، ربما يكون الوليد مشوه، ربما يكون في أحسن صورة، وصورة المخاض نسيج من المعانات والرغبة بالخلاص، واليكن ما دام لابد من حدوثه من أجل اكتشاف إسقاط الألم المصاحب للحذر والانتظار، عجيب الشاعر عبد الوهاب ألبياتي في هذه القصيدة حين يقول في المقطع الثالث:
(3) قال: (( اقتليني، فأنا أحب عينيك))
وضاع الصوت
ثمة صراع أزلي وحوار يرافق القصيدة، بينه وبين المرأة وبين المشاع الداخلي الصوت المنطلق في ثنايا المشكلة، نمط من التوهج على شكل احتلال يعبر عن المضمون الدلالي ويصاحبه هواجس المخاض، وعرش المرأة الإنجاب وقيمة وظيفتها الحياتية، في المقطع الرابع من القصيدة يعود إلى حالة الخوف التي تصاحب المخاض قائلاً:
(4) شوارع المدينة
موحشة، بعدك، حتى الموت
لاشيء بعد الإحساس بالوحشة، وجدت هنا كلمة “موحشة” صورة لأمرأة تحمل باقة ورد ذابلة وحركة ذراعيها لا تفضي إلى شكل الحياة، ولكن ألبياتي يذكر شوارع المدينة، وأي مدينة هذه التي يصفها بالموحشة، لا بد أنها مدن المنافي التي تحمل الوحشة حتى الموت، صدر الشاعر يضيق وهو يحلم بلحن متناسق يشبه جولة صباحية في مدينته الأم.. لكن بعد أن أصبح لشوارعها قضبان متشابكة كسجن لا يكون فيها الرجل نبيلاً من قبل جلاوزتها… تعلو أصوات الماضي في نفسه وما يعتلج روح التواقة إليها، لذا يتحول بخطواته قافلاً إلى المذياع في منتصف الليل ونشرة الأخبار لعله يهدئ غليان فكره، ونسمعه في المقطع الخامس:
(5) كان مذيع نشرة الأخبار في منتصف الليل
يعيد الموجز. الأطفال كانوا
نائمين. كانت
السماء حبلى، شارة غامضة،
…
المستنقع الجاثم في أحشائه
رأيت نيسابور في سريرها عارية تضاجع التنين
يتحسس دقائق لم يلاحظها رجل من قبل، وطن اغتصب الفكر، وحياة المرأة زاوية يتعصرها الألم وترابط ممتد يبقيان في أعنف حالة من حالات الوضع المزري، وأي حمل هذا شارته غامضة، ربما حمل غير شرعي، أو هو بالفعل حمل غير شرعي يقود إلى مستنقع الفاجعة، أين لحظات المخاض ومتى يحدث؟ يراوده القلق من غشاوة ترافق النفوس الضعيفة تحمل من التخلف ما يجعل المخاض حلم، وبهزة من رأسه المثقل بالأفكار يكمل المقطع الخامس:
(6) ومذيع نشرة الأخبار في منتصف الليل
يعيد الموجز.انتظرت: أن تستيقظي أيتها
الكاهنة- العذراء. فالعالم في العصر الجليدي
على أبوابه الجنود والطغاة
بدقة يجمع خطوط الفارق بين الذي يحدث، والذي يأول، والذي سيصار إليه.يفهم ذلك من إعادة الموجز وانتظاره استيقاظ الكهنة في العصر الجليدي، ويؤكد حقيقة الزمن المريض بالوهم والوهن الذي يحمل المعلن للزمن القادم، وصيغة التحول من ذاكرة الليل وإعادة الموجز. والجنود على الأبواب والطغاة والعصر الجليدي كلها دلالات إلى منحنيات الواقع، ومعطيات التجلي عند الشاعر، جمال حالة المخاض عند المرأة، وجمال أخر يحمل المخاض في حالة حدوث التغيير والصحو من سبات الواقع المعاش، ولكن ألبياتي يعلم جيداً انه يتعذر حدوث المخاض والزمر التي تقود المجتمع إلى أعمق حالة من الانحطاط، وإعادة الموجز أكبر دليل، يفهم أبعاده الفرد العربي، وما وقعها على المفكر، والشاعر حينما يدخل عالم الحرية من خلال بناء المفاهيم الأخلاقية متقرباً من الرمزية المقصودة لتتجلى حكمته وبلاغته في مضامين البحث وتراكيبه الفنية والجذابة ويصبح الجمال والفكر وجهين متلازمين للوجود المنظم الحر يكابد من أهوال الدهر.
المصدر: عبد الوهاب ألبياتي/ سيرة ذاتية لسارق النار/ الجمهورية العراقية وزارة الإعلام/ مديرية الثقافة العامة/ ديوان الشعر العربي الحديث/ (47)/ مطبعة الأديب البغدادية/ رقم الإيداع 107 في 20/ 2 / 1974 / تصميم الغلاف: هاشم سمرجي/ الرسوم الداخلية/ يحيى الشيخ.