لا شيء، نعم. لا شيء غير صرخة الغيوان الرافضة (علاش أنا ضحية للصمت) تستحق أن تستهل هذا القسط من الكتابة، باعتبارها ضربًا من ضروب الصلاة بلغة «كافكا»:
غير خذوني لله، غير خذوني..
روحي نهيب لفداكم، غير خذوني..
معدوم ولفي لله دلوني..
ما صابر على اللي مشاو، أنا ما صابر..
صفايح فيدين حداد، أنا ما صابر..
هذه الكلمات كانت وما زالت وستبقى تعبر بدون رتوش عن أنين حواري المغرب المنسية، وعن معتقلات المغرب ومخافره وسراديب ظلامه، بل وتعبر كذلك عن تجبر النظام القائم على مواطنيه -إن لم نقل رعاياه- ومواطني أقرب جيرانه إبان مغامرته الاستعمارية للإقليم المقبرة (إقليم الصحراء الغربية). فخلال 161 صفحة من الحجم المتوسط استطاع -وكله محاولة- ذ. عبد الرحمان خوجا في روايته «ليال بلا قمر» أن يعرض بضاعة انتقامية بكل تقنيات Marketingعلى هامش محج أعتى ديكتاتوريات القرن الماضي، بضاعة فيها الضرب بسياط الإنسانية الشيء الكثير للعنصر والعرق والوجود الصحراوي على أرضه، ومستنبت تاريخه، وبدوية وطنه، المكبل بلعنة الجبر الشمالي؛ منْ تتناغم معهم وبهم عشوائيات البعد الأورو-إفريقي؛ بل ونسبح بمعيتهم داخل تيار المصير المشترك ووحدة اللغة والدين وتضارب المصالح… لكن الشمال وإقطاعيه اختاروا لغة Colonial.
ما إن تُلامس غِلافه الخشن حتى تصدم بعنوان مُحمر، عريض معلق على دفته الأمامية (ليال بلا قمر، تتوسطه صورة مكفهرة تحيل لآهات الجراح المنغمسة حد التخمة في تجاعيد الأسى وتجاويف الفكرة؛ حفر المعتقلات السرية (درب مولاي شريف، قلعة مكونة، قصر الباشا، أكدز). قد تختلف النعوت والأماكن لكنها تتقاطع في حقبة زمنية يخيل لنا أنها انقطعت، الا أن جمرها ورصاصها باقٍ ما بقيت سلطة التاج.
[لم تكن تلك الليلة في ظاهرها سوى ليلة كسائر الليالي، إلا أنها كانت ليلة بلا قمر! موقعها في تاريخ الميلاد هو 17 من مارس من سنة 76 في القرن العشرين، لكن وقعها في ذاكرتي لم يكن يعد بالساعات، وإنما بالشهور، ولربما بالسنين!]، بهذه الجمل النازفة، الدامية، المثخنة بالوجع، المثقلة بالغرائز؛ استهل كاتبنا ميلاد مولوده من جنس السرد الذي يضاجعك وتضاجعه بدون حياء، يغريك، يغويك، يمارس تجبره على خيالك حتى بدون أدنى مقاومة أو اعتراض. لأنك أمام هالة! الهالة لو قُرنت بسجال ألف ليلة وليلة لذابت الأخيرة أمام حجم الفظاعات الملكية، وسادية نيكروفوبيا الانتقام.
(3 أجزاء) مُشكلة قوام الرواية برمتها كانت كافية لانبلاج نص خرج كالعنقاء بعد مخاض عسير من «شفهية الحكاية» التي لم تعرف تدوينًا يشملها، يلملمها من كل الزوايا، بعدما جفت جفون رفوف أدب السجون بالصحراء الغربية وأصابها القحط الموسمي، اللهم باكورة كاتبنا -القيد القراءة- و(أشعار الحياة) للمعتقل السياسي السابق «سعيد البيلال»، و(قبو العمر) للمعتقل السياسي «سيد امو بابوزيد» [..]، إلى غير ذلك من التراتيل التي كانت وستظل ندبة جرح على نهدي الإنسانية، بل شكوى أمام عدالة السماء غير القابلة للتقادم.
ما نحن بصدد نفض الأتربة عن جنباته ليس «عملًا روائيًّا» يعبر عن حزمة خواطر مخصية على ناصية بقشيش عشاق القرن 21، ولا بصراع جدلي بين ثنائيات فلسفية ضيقة (الظلام/النور، الجهل/العلم، الخير/الشر…) ولا حتى بخيال درامي نابع من مخيال كاتبه. إنها ذكرى، وجع منسي، حشرشة شعب لا يعرف غير الخيام، هوية أُريد لها أن تكون ضمن التراث، بل ليس هذا ولا ذاك، إنها «لغة البرافدا الحقة» النابعة من كومة الظلام وزنازين تحالف (فرانكو وليوطي) التي يرويها كاتبنا بضمير المتكلم العارف الذي كان يجرجر أقلامه بين ممرات كلية الطب بمدينة الرباط، حتى يجد نفسه بين رفاقه المعتقلين السياسين الصحراويين في رحلة اللاعودة منتقلين على حر الجمر، حفاة تحت سياط الجلاد وصرخاته، بين (حلكة درب الشريف) و(قصر الباشا)، مرورًا (بقلعة الورد وأي ورد؟!)، ووصولًا إلى (براري أكدز). مسلطًا معول سرده على أقبية السجون السرية السيئة الاسم والسمع، بأسلوب أدبي جد بسيط قد يجوز قبوله بكونه الأنسب لحمل دفقة الكاتب الشعورية المضطربة، إلا أنه لا يصل لتطلعات تلك المأساة الإنسانية التي عاينها وكان جزءا لا يتجزأ من صلبها خلال حقبة التواجد في ذياك المكان خلال سبعينيات وثمانينيات وبداية تسعينيات القرن المنصرم، حينما كانت بوصلة الأرض تغلي تحت أغلال الرفض والاستعباد، محاولاً طمر أحذية العسكر الخشنة. خصوصا تلك التي لطخت رمال الصحراء الغربية، وجعلت من كهكهة الموت صكًّا مع التاريخ على قوام الإقليم، وهل من سلك هذه الرحلة تستطيع أن تتلوا على مسامعه آيات «العهد الجديد» و«زخرفة حقوق الإنسان»؟
تتلوا فقط، وما بالك بالإقناع. وما بين التلاوة ومحاولة الإقناع مسافة وُشم عليها صرخات (مظفر النواب):
يأس..
يأس يا سيد الموقف
أعصف ودمر..
أقبل حزن يديك
اتقد..
طهر الشعب من لعنة الجبر
شمر..
وذوب مباذلنا الشاحمة
تمرد.. تمرد