عبد الخالق حسين
مازال الشعب العراقي يعاني من تركة النظام البعثي وتبعات سقوطه، ومن هذه التركة، تشدده في مركزية الحكم وتجريد الأطراف من الصلاحيات، وحكم العراق بما يسمى بالاستبداد الشرقي. وهذا التطرف في المركزية خلق رد فعل معاكس له في الاتجاه، ومساوي له في المقدار، إذ راح البعض يطالب ليس فقط بتوسيع صلاحيات مجالس المحافظات، بل وبشيء قريب من الاستقلال، وتأسيس دويلات الطوائف، وتمزيق الوحدة الوطنية.
لذلك يعتقد بعض المحللين أن المركزية المتشددة هي التي حافظت على وحدة العراق، وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، إذ أدعوا أن الشعب العراقي مازال متخلفاً، ولا يناسبه النظام الديمقراطي، بدليل أن الديمقراطية هذه مزقت الوحدة الوطنية، وكان آخرها مطالبة مجلس محافظة صلاح الدين بتحويل محافظتهم إلى إقليم، علماً بأن المحافظات الشمالية الغربية كانت من أشد المعارضين لنظام الأقاليم إلى حد أن وصفه البعض منهم بالخيانة الوطنية. ولكن لأسباب ذكرناها في مقال سابق، غيرت القيادات السياسية والإدارية لهذه المحافظات موقفها أخيراً من الفيدرالية وبشكل مفاجئ، فراحت تطالب بها، متعللين ببعض مواد الدستور التي تسمح لمجلس كل محافظة بالتحول إلى إقليم وفق القوانين.
وجاء تأييد هذا الحق من السيد رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي مدحت المحمود لقناة الفيحاء حيث قال: “أن الدستور يعطي الحق للمحافظات التي ترغب بان تكون إقليما بمجرد القيام بالإجراءات القانونية”. ومن الجانب الآخر، عارض رئيس الوزراء، السيد نوري المالكي نظام الأقاليم في المناطق العربية، ووعد بإعطاء صلاحيات أكثر للمحافظات وذلك كإجراء بديل عن مطالب المحافظات بالأقاليم، لأن في رأيه، أن تحويل المحافظات إلى أقاليم سيؤدي إلى تمزيق العراق.
أعتقد أن كل من رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس الوزراء على حق رغم التناقض الظاهري في تصريحاتهما. فدستورياً يحق لأية محافظة، أو عدد من المحافظات أن تتحول إلى إقليم فيدرالي. ولكن في نفس الوقت فإن رئيس الوزراء هو الآخر على حق، لأن تحويل كل محافظة إلى إقليم معناه تمزيق العراق إلى دويلات الطوائف، ويكرس الطائفية، ويهدد بالصراعات الدموية في المستقبل على الحدود وتوزيع الثروة، ويجعل من كل دويلة لقمة سائغة يسهل ابتلاعها من قبل دول الجوار.
لذلك فالخطأ هنا في الدستور، لأن الذين كتبوه كانوا قد زرعوا فيه لغمين، أو أكثر، وعن عمد، أحدهما، مادة الأقاليم، كعبوة ناسفة وموقوتة لتفجرها في أي وقت تشاء أية دولة من دول الجوار بالريموت كونترول. واللغم الثاني، هو صعوبة تعديل الدستور، حيث وضعوا مادة خاصة بهذا الشأن، مؤداها أنه لا يجوز تعديل الدستور إلا بعد مرور دورتين برلمانيتين كاملتين، يعني ثمان سنوات من بداية الدورة السابقة، وشرطاً آخر، وهو إجراء استفتاء شعبي على التعديل على أن لا يعارضه ثلثا ثلاث محافظات. وهذا يعني أن من حق ثلثي ثلاث محافظات استخدام حق النقض (الفيتو) على أغلبية الشعب العراقي. وهذا أمر غريب غير وارد في جميع دساتير العالم. بعبارة أخرى، لا يمكن تعديل الدستور العراقي، لا الآن، ولا في المستقبل المنظور.
يتذرع دعاة الفيدرالية بالاستشهاد ببعض الدول الفيدرالية الديمقراطية المتقدمة مثل أمريكا، وسويسرا وبريطانيا، وغيرها. والتشبيه هنا لا ينطبق على العراق إلا في حالة فيدرالية كردستان، لأنها مبنية على أسس قومية لها خصوصياتها، وليست طائفية. أما الفيدراليات في المناطق العربية فمبنية على أسس طائفية، لذلك نعارضها وحذر من عواقبها الوخيمة. فالنظام الأمريكي، في الحقيقة كل ولاية أمريكية هي عبارة عن دولة، لذلك سميت بـ United States of America، أي الدول المتحدة الأمريكية، ولكنها ترجمت خطاً إلى (الولايات المتحدة). فمثلاً، ولاية كاليفورنيا وحدها تعادل العراق في المساحة، وسكانها نحو 37 مليون نسمة، أي أكثر من سكان العراق، ووارداتها تعادل أضعاف ورادات العراق.
أما سويسرا، فقد تم تقسيمها إلى كانتونات حسب الانتماءات القومية والاختلافات الغوية، وبعد مئات السنين من الحروب الأهلية بين مكونات الشعب السويسري. أما بريطانيا، فعندما وافقت السلطة المركزية في لندن على منح الأقاليم (سكوتلندة، وويلز، وأيرلندا الشمالية) حكماً ذاتياً، وتشكيل برلماناتها وحكوماتها، طالبت مجالس الحكومات المحلية في شمال إنكلترا بتحويل منطقتهم إلى إقليم ذي حكم ذاتي، أي برلمان خاص بالمنطقة. استجابت الحكومة المركزية لطلبهم فأجرت استفتاءً لسكان المنطقة، فصوتت الغالبية (75%) ضد الفكرة، لأن هكذا نظام سيخلق طبقة جديدة من السلطة والبيروقراطية، والتي تشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانية الدولة وكاهل دافع الضرائب. وهكذا قُبرت الفكرة وهي في المهد.
وإذا ما اتفقنا مع دعاة تحويل المحافظات العربية إلى أقاليم فيدرالية، فليس مستبعداً أن يطالب سكان المحافظات الجنوبية (البصرة والعمارة والناصرية) بنظام الأقاليم، وهذا الطلب إذا ما تحقق فلن يتوقف عند هذا الحد بل وربما سيقود إلى المطالبة بالاستقلال، وهي التي فيها الثروة النفطية، خاصة وأن النظام الديمقراطي يسمح لهم بذلك.
لذلك نعتقد أن المطالبة بإقامة الأقاليم الفيدرالية في المناطق العربية هي البداية لتكوين دويلات الطوائف. والمحافظات الشمالية الغربية هي التي ستخسر في نهاية المطاف، لأن هذه الخطوة هي الأولى في طريق الاستقلال، وتعرف هذه المحافظات أن ليس لها موارد كبيرة، ومساهماتها في دعم ميزانية الدولة العراقية ضعيفة إن لم تكن صفراً على الشمال، ومع ذلك تطالب مجالسها بتشكيل دويلات لهم، ليفرضوا ماليتهم على المحافظات الجنوبية. ولذلك نرى من مصلحتهم إعادة التفكير في هذا المشروع الهدام الذي سيضر بهم أكثر من أية جهة أخرى.
كما ويدعي البعض أن نظام الأقاليم سيضع حداً للفساد الإداري، وهذا وهم ما بعده وهم، إذ نعتقد أن هذا النظام سيوسع الفساد الإداري لأنه سيخلق طبقة أخرى من الفاسدين، ويفتح مجالاً أرحب وأكثر لتفشي الفساد، ودليلنا هو أن الأجهزة الإدارية في إقليم كردستان لم تسلم من تهمة الفساد.
مشكلة أخرى ستواجه نظام الأقاليم، ألا وهي، التضخم الإداري والبيرو قراطي. فلنتصور أن كل محافظة ستتحول إلى إقليم، وهذا يعني أنه ستكون في العراق 17 حكومة (بما فيها الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان). وهذا يعني سيكون في العراق 17 رئيس ومجلس وزراء، و17 رئيس إقليم، و17 رئيس ومجلس برلمان. وهذا يعني أيضاً، تضخم الجهاز الحكومي لعموم العراق إلى نحو 700 وزيراً، وآلاف النواب والمدراء العامين، وبالتالي تضخم رهيب في الجهاز الإداري والبيروقراطية. وهذا الجيش العرمرم من الوزراء والنواب والمدراء العامين والموظفين، سيبتلع معظم واردات الدولة العراقية على شكل رواتب، ومخصصات، ورواتب حماية وخدم وحشم، وسيارات خاصة. وهدف كل وزير، ونائب، أن يفوز بالمنصب حتى ولو لدورة واحدة أو لأسابيع، ليفوز بعدها بلقب المنصب، والراتب التقاعدي الخيالي الذي يبلغ عشرات الألوف من الدولارات شهرياً لكل منهم.
ولن تتوقف المسألة عند هذا الحد، بل سيطالب كل إقليم حصته في السفارات العراقية في الخارج، ومن حق الأقاليم إبرام الاتفاقيات مع الدول، وهكذا يضمحل دور الحكومة المركزية إلى مجرد اسم. والنتيجة النهائية، تبديد معظم واردات الدولة على شكل رواتب خيالية لوزراء الأقاليم وأعضاء مجالس نوابها، وموظفيها وأجهزتها البيروقراطية المترهلة، ولتذهب مشاريع التنمية إلى الجحيم!!.
وبناء على كل ما تقدم، نعتقد أن فكرة الأقاليم ليست حلاً سحرياً لمشاكل العراق كما يروِّج لها دعاتها، بل ستخلق المزيد من المشاكل الكارثية. لذلك، نهيب بكل المخلصين من أبناء الشعب العراقي أن يعيدوا النظر في حساباتهم، ومواقفهم من الأقلمة أو فيدرالية المحافظات، وأن لا يتخذوا من مشاكل مؤقتة وسيلة لخلق مشاكل دائمة من شأنها تمزيق العراق وتدميره.