الدكتور عبـد القـادر حسين ياسين*
هذا الصباح استيقظت متأخرا ، بعد ليلة قضيتها في تحرير وتـجـديد مـداخل “الموسوعـة الفلسـطينية” Encyclopaedia Palestina التي أعـمل على إنـجـازهـا مـنـذ أكثر من عشـر سنوات. أفكر في أمور كثيرة ربما هي ليست ذات أهمية بالنسبة لغيري، ولكن بالنسبة لي هي حياتي …
جاءني صوت الحاجة سـعدية ، تلك الفلاحـة الفلسطينية حتى النـخـاع ، من عمق الـوطن :
“تشيف [كيف] حالك يا حبيبي… ؟
حبـّيت أطـَّمـَّن[أطمئن] عليك في غـُربتك…
وأكللك…[أقـول لك] : وحياة معزتك عندي إني بـدعيلك [أدعـو لك] في كل صـلاة…
الله يرد غربتك وأشوفك [أراك] كبل [قبل] ما أموت…!!”
كم كانت نبرات صوتها حزينـة وصـادقـة .. وقلت لها من قلبي :
“يبـدو ، يا حاجة سـعدية ، أنـه لم يبق لنـا سوى الـدعـاء…”
المشاعر النقية لا تورث القلب غير الكآبة المزمنة.
شعرتُ بالحزن يـُعسكر في داخلي …
رغم كل شيء أشعر بوحـدة قاتلـة…أشعر بأنني وحيد وحزين بشكل خرافي … هنا ، في هذه الأصقاع الشمالية المتجمدة تَدُبُ في شراييني حرارة تهب من جحيم دائم الغليان، يَسـتعر كلما تذكرت احباء ، أو خطر ببالي أصدقاء ورفاق غابوا في ظلام دامس ، وآخرين غيَّبهم الموت ، وآخرين ما زالوا في غياهب السجون والمعتقلات العربية ، وغيرهم انتفوا- طوعاَ او قسراً – في اصقاع الدنيا ، بعد ان ضاقت بهم أرض العرب بما رحبت .
أشعر بأن هذه الصحراء الجليدية اكثر دفئا وحنانا ، واكثر انسانية من أولئك الذين خُـيِّل الينا أنـنـا نـشاركهم اللغة ، والثقافة ، والدين ، والتاريخ ، والنضال ، والمسير، والمصير المشترك . أنظر الى اسراب الطيور المهاجرة ، وأبحث عن نفسي فلا أجدها… تحترق اصابعي اذا مَسَّـتها ، أقتربُ من النار ولا أدانيها… وأدرك انها بعيدة عني بُعدي عن الله !!
أمل ، تلك الطفلة الفلسطينية الصغيرة التي تـقـيم في أوسـلو، ما عادت تكاتبني… سبق أن وعـدتها بقبلة إن التقينا على قارعة حزن….
سـألتني ذات يوم وأنا أجلس مع والـدها في كفتيريا جـامعـة أوسـلوعن سرّ حزني الغامض الـدفين.. وقالت ببراءة الأطفـال : “ما في شي بسـتـاهـل…عمـّو”!!
كنتُ متوتر الأعصاب يومها فـقـلتُ لها: “الحزن ، يا أمـل، هو الحقيقة الوحيدة في هذه الدنيا …”
أحسها قريبة من نبض القلب ،غارقة في طفولة الحزن وبراءته… تغرق نظراتي الشاردة في ملامحـهـا الملائكية الشجية
… ألعن لغتي المعتوهة .
يـُسعـفـنـي الحزن ولا تـُسعـفـنـي العـبارة ….
بي حنين جارف إلى أن أبكي …
حتى الـدمـوع أصبحت عـصـيـَّة…!
@@@@@@@
عـاصفـة هـوجـاء “تعـربـد” في الخارج…وتـعـيـد إلى الأذهـان غضـب الآلـهـة في أساطير الاغـريق… أناملي تلامس قطرات المطر الناقرة زجاج نافذتي… ، أحلم برحلة نوم عميق..
في الأسـبوع الماضي وصلتني رسالة من صديقة سويسرية تحيطيني فيها عـلـمـا بأن زوجـهـا قـد انتحر بـإلقـاء نفسـه تحت عجلات القـطار السريع…بـعـد أن “أصبحت الحياة بلا مـعـنى…” كما أخبرها في رسالة تركها لها على حـاسـوبـه…
وبعثت إليها برسالة مطولة قلت لها فيها ، في جملـة أمور أخرى ، أنني لا أجرؤ على الانتحار …
ربما هو نوع من الجبن أو سـَمـِّه ما شئتِ ، أو لعله انتظار شيء قد يأتي من المجهول ، وينتشلني من عـذابات النفس التي أعيش فيها باستمرار .
ليلة البارحة رأيت شخصا ، مرَّت عليَّ ملامحه ، لكني لا أستطيع تحديدها… أعـتـقـد أن حالة عدم التركيز التي أعاني منها منـذ إجراء العملية الجـراحـيـة الأخيرة قد أثــَّرت عليّ … حدثني بلـغـة ألمانية كلاسيكية… تـحدث عن كارل مـاركس ، وفريدريش نيـتشـه ، وبـاروخ سبينوزا ، وجورج فـلـهـلم هـيـغـل ، وكلما حركتُ رأسي خـُيـِّلَ اليه أنني أستمتع بحـديثه. وأطلب المزيد … يبدو أني شختُ قبل الأوان .
لقد تعبتُ من الوحدة …. فكرتُ يوما في أن أقوم برحلة أضيع فيها في غياهب الزمن… بين جوانحي بحر متلاطم الأمواج … الألم توأم وحدتي ، ولأنه لا جدوى من الكلام .. أفضل أن أحتسي فنجان حزني وحيدا ، غارقا في صخبي الصامت ..
اليوم ، وأنا أقـوم بنزهتي اليوميـة في الغـابـة ، رأيت طـفـلا لا يـتـعـدى الخامسـة من عـمـره يجلس مع طفلة ربما تكبره ببـضـعـة أشهر .. أثارني إنصاتها إلى حديثه الطفولي ، غارقا في ضحكٍ صافٍ … أشعر بالوجع يـتـمطط في داخلي … لا أتذكر أنني عشـت طفولتي البعيدة … أو أنني ضحكت ذات طفولة .. ولا أنكر أن علاقتي مع ذاتي ومع الحياة لست على ما يرام !
آه ؛ يا وحـــــدي أنــا …!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقـيـم في السـويد.