أسماء وأسئلة: إعداد وتقديم : رضوان بن شيكار
تقف هذه السلسلة من الحوارات كل اسبوع مع مبدع اوفنان اوفاعل في احدى المجالات الحيوية في اسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد انتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيفة حلقة الاسبوع الكاتبة اللبنانية رلى الجردي المقيمة في كندا
1 كيف تعرفين نفسك للقراء في سطرين؟
أنا شاعرة وروائيّة. درستُ علم الأنثروبولوجيا والتاريخ، وتخرّجتُ من جامعة يال (دكتوراه) عام ١٩٩٨، وأدرّس التاريخ الإسلامي الفقه السياسي في جامعة ماكغيل منذ عام ٢٠٠٤. أرسم على القماش والخشب من وقت لآخر.
(2) ماذا تقرأين الآن وماهو اجمل كتاب قرأته ؟
قرأت كتبًا عديدة جميلة لذلك لا أحبّ ذكر كتاب واحد، فمثلًا في الشعر قرأت، “النصوص الشقراء” لناديا التويني، شاعرة لبنانيّة، ومجموعة “عطشى” لِديون براند، شاعرة كنديّة. وحديثًا في الرواية، قرأت رواية سيدات القمر لِجوخا الحارثي.
(3) متى بدأت الكتابة ولماذا تكتبين؟
كتبتُ الشعر أو شيء يشبهه حين كنت صغيرة، ربّما في عمر التاسعة. لم أفهم ما هو، لكنّني كنت أندفع نحو الورقة والقلم كمن يحتاج إلى الهواء. أكتب لنفسي، أكتب لأكتب، أكتب لأرتاح. أشعر باضطراب حتى أُخرج ما في داخلي على الورقة. أجلس بعدها ساهمة متعبة.
(4) ماهي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين الى التسكع في ازقتها وبين دروبها؟
بيروت مدينة تسكنني. أعود إليها في الشّعر وفي الرواية، وإلى صنوبرها، بحرها، رائحة مساءها، كي أفهمها وأفهم نفسي. ولأنّ الشّعر سفر ليس فقط في اللغة بل في ما وراءها، فهو يناسب علاقتي بهذه المدينة التي أشعر أمامها بالعجز والدهشة والحبّ. ربّما كنت أقوم بمحاولات لأجعلها تقبلني، لأن أمسكَ بها أخيرًا. قلتُ في قصيدة: “حيثُ أنا والصَّنوبرةُ/ نخضعُ لِعمليَّةِ زَرعٍ لِلعِناق”. هي مدينة قويّة تقول عن نفسها: “أنجو بليونة من الموت/مع الهررة والنّعناع”، وهي مدينة حزينة، كلّما ضحكت تخسر شيئًا من روحها. كتبتُ عن الزّمن فيها: “الوقتُ طيورٌ تُهاجرُ إلى ماضِيَين/ والحاضِرُ متأخِّرٌ/ كحَبيبٍ يتبرَّجُ طويلًا/ ويُعيدُ خَلْعَ ملابِسِه/ عندَ اقترابِ الِّلقاءِ”. نحن لا نستطيع التخلّص من الحنين، مع أنّ الحنين هو في حدّ ذاته مشكلة. يجعلنا نجمد أمام صورة واحدة وإحساس أوّليّ للمدينة، فتصبح هي أمّ الأمكنة، لا تتركنا نعيش أو نتماهى مع مدن أخرى.
نيويورك أيضًا مدينة تسكنني. لا تشبه مدينة أخرى. أثارت في داخلي أحاسيس عميقة ومتناقضة خاصّة لأنّني ذقت فيها الحبّ بجنونه وأبهته كما لم أذقه من قبل. تتنازعني مشاعر كثيرة، كبرت معي في نيويورك، فرسمت مساحات من روايتي، في علبة الضّوء، ومن ثمّ قصائدي في كليلى أو كالمدن الخمس، فكتبت عن جمال وقسوة المدينة: “نُيويورك/ تقديمُ الهِباتِ الدّائِمة/للسَّاعةِ المُعلَّقةِ كالَّلاتِ فوقَ السَّرير”، وكتبت: “نقفُ بين أَربَعِ لوحات/
بَعثَرَ فيها بيكاسُّو الفخذَ الواحدَ والشِّفاه/ ندخُلُ بين العيونِ المُتشابكة بلا تَردُّدٍ/ نَقتبِسُ مُفردةَ النّاطحاتِ/ علُوِّها، دُوارِها/ لِنَصفَ انغلاقَ جلدِكَ على جلدي”.
(5) هل انت راضية على انتاجاتك وماهي اعمالك المقبلة؟
نُشرت لي ثلاث مجموعات شعريّة وهي، غلاف القلب (٢٠١٣)، وكَليلى أو كالمدن الخمس (٢٠١٦)، وما بعد الوردة (٢٠٢٢). كما نُشرت لي روايات، الكثافة (٢٠٠٧)، وفي علبة الضوء(٢٠١٧)، و مئة رعشة (٢٠٢١). إلى جانب ذلك، نُشر لي عدد من المقالات والكتب الأكاديميّة التي تحيط باليسار والإسلام السياسي في لبنان، وأشكال التداخل بين العلمنة والتدين، والتحولات الفقهيةألسياسية في إيران والعراق وسوريا خلال القرن السادس والسابع عشر.
أفرح حين يبدي نقّاد جدّيون ومبدعون احترامًا لأعمالي، وأنظر دائمًا إلى ما كتبت وأكتب بعين النقد وهذا أمر لا مفر منه. مثلًا أشعر بأنّ روايتي الأولى كانت تحمل أبعادًا إنسانيّة مهمّة لكنّها تفتقر إلى الإحكام في صياغة الشكل الروائي، تقنيّة الكتابة. ولذلك أعتبر في علبة الضّوء روايتي الأولى فعلًا. بعد ولادة عمل ما، ديوان أو رواية، أجد متعة حقيقيّة في الابتعاد عن هذا المولود لأجدّد نفسي، لأصاب بالدهشة مرّة أخرى.
6 ماهو العمل الذي تتمنين ان تكوني كاتبته؟
العمل الذي أتمنّاه الآن هو في مجال الرّسم. أرسم منذ فترة ولكنّني أريد أن أتفرّغ لرسم مجموعة من اللوحات تحمل سؤالًا جامعًا. أحبّ أيضًا أن أكتب مسرحيّة، ووضعتُ بعض سماتها على الورق. لا أعرف ما الذي سأقوم به، فقد قلت لنفسي مرّة أنّني شاعرة ولن أكتب الرواية، ثمّ كتبت روايات، وقلت إنّني لا أكتب شعرًا إلّا بالعربيّة، وكتبت شعرًا بالإنكليزيّة وأنا أعمل الآن على إنهاء ديوان بالإنكليزيّة. لذلك توقّفت عن تحديد ما سيكون.
(7) متى ستحرقين اوراقك الابداعية وتعتزلين الكتابة بشكل نهائي؟
حرق الأوراق؟ لا، لا أحرق شيئًا. أترك فوضى ونظام ما كتبته للآخرين. التوقّف؟ يبدو محالًا، الكتابة لا تتركني. لا أستطيع أن أتخيّل شكل الاعتزال.
( هل للمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها ام هو مجرد مغرد خارج السرب؟
للمثقفة أو المثقّف دور مهم وغير مهم. هو مهمّ في لحظة زمنيّة قد تكون لاحقة لنتاجها ونتاجه، وقد لا يترك أثرًا يُذكر خلال حياة المثقّفة والمثقّف. أما بالنّسبة إلى نوع التأثير، فقد يكون جوهريًّا أو عرضيًّا. التفاعل مع نتاجها ونتاجه ليس شاملًا ولا ملموسًا، إلّا نادرًا، بل يحدث في أطر محدّدة وداخل شرائح اجتماعيّة وإنسانيّة معيّنة. لكيّ يكون الإنسان مثقّفًا عضويًّا متجذّرًا في التراث، وآتيا بالأسئلة المقلقة من خارجه في الوقت ذاته، عليه وعليها أن يغرّدوا خارج السّرب. والسّرب قد يتغيّر ليواكب خطواتهنّ وخطواتهم، ولكن كما قلت، ببطء وضمن حدود معيّنة.
9.هل لك طقوس خاصة للكتابة؟
طقوسي في الكتابة تغيّرت. لكن في العقد الأخير صرت أصحو باكرًا، لأتلقّى الصّمت والضوء الطازج ورائحة الشايّ. بعدها أكتب وأكتب دون توقّف لأربع أو خمس ساعات ثمّ أرتمي على الكنبة ساهمة. أسمع أصوات زوجي وابنيّ وأسير نحوها مشتاقة. نتحدّث عن بعض الأشياء وعن لا شيء. نتمتّع بتقارب وجوهنا وأجسادنا من بعضها البعض. بعدها أقوم بأعمالي في الجامعة وفي البيت. مع مرور السنين، صرت أتعب من الكتب والكومبيوتر، أهرب إلى الشجر والشمس، وإلى الخياطة، إلى لمس واشتمام الأشياء من حولي، وإلى حركتها. حين أكون مشغولة بإنهاء عمل أكاديميّ أخصص بعض ساعات الظهر والمساء له.
10. ماذا يعني لك العيش في عزلة اجبارية وربما حرية اقل بسبب الحجر الصحي؟وهل العزلة قيد ام حرية بالنسبة للكاتب؟
العزلة حتى زمن الحجر الصحّي مدّتني بمساحات من الهدوء والتأمّل كنت بأمسّ الحاجة إليها. ربّما جعلت العزلة الكثير من النّاس يتركون ما اعتبروه مهمًّا ليعتنين بالأهمّ. لكن هذا موضوع يختلف من إنسان لآخر، ومن عمر لآخر، فابني مثلًا عانى كثيرًا من الحجر الصحّي لأنّ احتكاكه اليوميّ بأصدقائه وزملائه في الجامعة كان الوقود التي يحتاجها للحركة والتفكير.
11. ماذا كنت ستغيرين في حياتك لو اتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟
لو أتيحت لي الفرصة لتخصّصتُ في تاريخ الأندلس وانتقلت إلى أسبانيا أو بقعة من المغرب العربيّ.
12. شخصية من الماضي ترغبين لقاءها ولماذا ؟
أرغب في لقاء أمّي لنكمل أحاديثنا.
13. ماذا يبقى عندما نفقد الاشياء الذكريات ام الفراغ؟
عندما نفقد الأشياء التي رسمت أهم ملامح حياتنا تختارُ الذاكرة منها سطرًا، لونًا، شكلًا أو رائحة. الماضي ليس فيه فراغ، لأنّ الحاضر لا يحضر دون زيارة الماضي. الذاكرة لا تحتمل الفراغ إلّا عندما تموت.
14. الى ماذا تحتاج المرأة في اوطاننا لتصل الى مرحلة المساواة مع الرجل في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز.الى دهاء وحكمة بلقيس ام الى جرأة وشجاعة نوال السعداوي؟
المرأة منقسمة على ذاتها طبقيًّا وجغرافيًّا وإيديولوجيًّا. لكن لو تحدّثتُ عن المرأة التي تعي بشكل أو بآخر أشكال الاستغلال والرقابة والقمع التي تتعرّض لها، فهي محتاجة إلى حركات نضاليّة نسويّة تسعى إلى تغيير القوانين المتعلّقة بها، وتطبيق شروط المساواة والعدالة الاجتماعيّة والإنسانيّة. ويجب الاعتراف بأنّ الحركات العلمانيّة والتقدّميّة اليساريّة تحديدًا في العالم العربيّ قلّما ناضلت من أجل المساواة الجندريّة بل عانت من الهيمنة الذكوريّة. ولذلك فنحن بحاجة إلى نوال السعداوي ومثيلاتها في الذكاء والشجاعة والنّضال.
15. صياغة الآداب لا يأتي من فراغ بل لابد من وجود محركات مكانية وزمانية، حدثينا عن روايتك (في علبة الضوء) كيف كتبت وفي أي ظرف ؟
بدأت ملامح روايتي، في علبة الضّوء ترتسم أمامي في مونتريال حيث أعيش وأعمل. حينها كنت أفكّر بأمّي التي رحلت قبل أن أشبع منها. وكنت أسافر في ذكرياتي إلى قريتها فأنظر إلى بعض نساء العائلة، منهنّ امرأة من أهل العرفان. أردت أن أفهم العلاقات المعقّدة بين الإيمان والجسد، وبين الحبّ والحرب، وبين الوطن والهجرة. أما مفهوم الباطن والظاهر بين أهل العرفان الذين ينتمون إلى هذه القرية، فأردت أن أجسّده من خلال الكاميرا، “الثقب الصّغير في العلبة المظلمة”، أي ما تراه العين وما يستقرّ في الصورة.
كتبتُ روايتي الأولى قبل عشر سنوات وتوقّفت. قلت لنفسي إنّني لن أكتب رواية أخرى، ومع ذلك وجدت نفسي أصحو من النّوم لأقسّم فصول رواية في علبة الضّوء، وأرى السطور تخرج منّي وتنساب على صفحاتها، رغم مقاومتي لها. قد يكون الظرف الذي أحاط بالرواية هو شعوري بفقدان عالم هوى، كنتُ جزءًا منه أنا وأمّي ولم أره، عالم أكثر شاعريّة وتسامحًا وشفافيّة. أو ربّما كنت أريد أن أخلق هذا العالم على الورق، وأنسج خيوطه من خيالي ومن واقع قرية أمّي معًا. رسمت هذا العالم من خلال آمال وآلام نساء ثلاث. ربّما كان فقدان أمّي قد دفعني نحو هذه الرواية، لأعيد ترتيب ذاكرتي وجمع ذاتي بين أميركا ولبنان.
16.هل يعيش الوطن داخل المبدع المغترب أم يعيش هو بأحلامه داخل وطنه؟
المبدعة المغتربة أو المبدع المغترب اللّذان يحتفظان بلغتهما الأمّ، لا يحملان فكرة معيّنة عن الوطن، بل يحملان العناق، رائحة البيت الأوّل، والصّديق الأوّل، لذلك يصعب الانفصال عن الوطن. تتداخل بعدها وتتشعّب التجارب وأشكال الانتماء. اليوم أصبح المغترب قريبًا جدًا من الوطن، ومفهوم الغربة ذاته تغيّر.
17. ماجدوى هذه الكتابات الإبداعية وما علاقتها بالواقع الذي نعيشه؟ وهل يحتاج الإنسان إلى الكتابات الابداعية ليسكن الأرض؟
لا أظن أنّنا نستطيع أن نسأل عن “جدوى” الكتابة الإبداعيّة، لأنّ الإبداع في جوهره غير استخداميّ، أي هو جدوى ذاته. لكنّنا نستطيع أن نميّز بين أنواع من الإبداع. منه ما يؤسس لرؤيا إنسانيّة تتخطّى القهر والعنف الواقعي والنّفسي، ومنه ما يكرّس مثل هذا العنف ويبرّره ويتماهى معه، مثل أدب وشعر الاستيطان والاستعمار والعبوديّة. هناك أعمال إبداعيّة ترسم علاقة مع الواقع واضحة ومباشرة، وأخرى رمزيّة وسورياليّة، ولكنّها تصبّ في إطار تغيير الواقع. الإنسان يحتاج إلى الإبداع ليس فقط ليسكن الأرض، ولكن أيضًا ليفترش السّماء، فالإبداع حاضر في كلّ المجتمعات التي نعرفها، ويأخذ أشكالًا لا تحصى.
18. كيف ترين تجربة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي؟
النّشر في مواقع التواصل الاجتماعي مهم، لأنّه كسر حواجز كثيرة، وشجّع المبتدئين، وعرّفنا على مواهب كانت مغمورة. لكنّ ذلك يعني أيضًا المخاطرة، أي نشر الطالح مع الصالح، وهذا متوقّع، لذلك لا يهمّ.
19. اجمل واسوء ذكرى في حياتك؟
حين حملت طفلي الأوّل زياد وضممته إليّ، شعرت باضطراب عميق مفرح ومحزن معًا. لا أعرف إن كانت هذه أجمل ذكرى، ولكنّها جعلتني حيّة أكثر من اللازم. كنت أشعر بكلّ خفقة في جسدي وروحي. وأسوأ ذكرى في حياتي يوم قالوا لي إنّ أختي توفيّت. لم أشأ أن أصدّق، لكنّها حين رحلت، ورحلت أمّي بعدها بثلاث سنوات، شعرت بأنّ غيابهما فتح عليّ أبوابًا من الفقدان وعليّ أن أدخلها واحدة بعد الأخرى لأشفى.