قد يكون هذا العنوان للمقالة هذه به نوع من السخرية ولكن على أي حال سؤالي مع ذاتي هو، هل هناك عقل مثقوب وعقل غير مثقوب؟ بمعنى هل هناك إمكانية لأن يكون الإنسان العاقل مدركا لما يحمله من قدرات وملكات يمكن له أن يسمو ويتكامل مع الوجود لو فعل ما هو واجب وكان وحريصا على ما فيه؟، دعني أعرف العقل المثقوب حسب ما رأيته كمصطلح أو ما أراه مناسبا لكي يكون بداية للإجابة.
العقل المثقوب هي الظاهرة الكائنية التي تتعرض لها بعض الكائنات ذوات الإدراك والعقل النسبي حينما تتساقط نتائج التجربة من مصفوفها الذهني سريعا دون أن تستفيد منها أو تخزنها كحالة طبيعية، بمعنى أن العقل المثقوب هي تلك الظاهرة التي تجعل من العقل بأي درجة تصنيف من لفاعلية غير قادر على ترجمة ما يتعرض له من تجارب وخبرات ويوظفها كوظيفة طبيعية من عدة وضائف يختص بها، من هنا فالمصطلح إذا يتعلق بنوعية من الفاعلية العقلية الناقصة والغير مكتملة عند البعض، سببها أما طبيعي كما هو معروف مثلا فيما يوصف بذاكرة الذباب، أو مرضيا كما في حالة الزهايمر التي تصيب كبار السن أو ما يعرف بالخرف الشيخوخي، وأحيانا يكون نتيجة تقصير ذاتي مرده أسباب نفسية محضة أو إرادة العاقل فيما يختار، وتحديدا ما أريده هو النوع الأخير من النشاط العقلي السلبي الذي يمارسه البعض من البشر حينما يفرطون بخزين الذاكرة العقلية أما لأنها لا تلائم النمذجة التي نشأ عليها أو محاولة هروب من نتائج تلك التجربة.
إذا نحن أمام ظاهرة تشير إلى خلل في قدرة الإنسان على تسخير ما متراكم طبيعيا من معرفة وعلم حصولي ونتائج، وما يجب أن يكون طريقا للترقي كما هو كائن من صفاته الطبيعية أن يكون خازنا وناقلا ومسخرا لما يمر به من تجربة حيه قد يكون هو من صنعها أو من أبطالها، ولكن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماما لمجرد أنه لا يريد أن يكون طبيعيا متوافقا مع الأصل الذاتي له، ومن هنا فكثيرا ما نجد بيننا وأحيانا حتى في أنفسنا نجد صورة أو أخرى من هذه الظاهرة تقارب وتباعد الأصل ولكن لا ننفي حدوثها عند الغالبية من الناس، قد تكون أحيانا مرسومة ومخطط لها وبعناية فائقة يتم التوجيه لها والوقوع في نتائجها، مرة بما يعرف بالنمذجة العقلية في صورة عقل جمعي ، ومرة من خلال طرحها بشكل متكرر لتكون جزء من الشخصية الإنسانية دون أن يكون الهدف معلن أو الجهة معروفة، وهذا ما يسمى باستراتيجية العقل المثقوب.
وهذه الأستراتيجية تخضع لجميع قوانين الاستراتيجيات الموجهة والتي تعتمد على تثبيت حالة أو ظاهرة أو تغيير قناعات وربما أحيانا إعادة خلق الشخصية البشرية من خلال تغيير قواعد الوعي الذاتي الفردي والجمعي، ومن هذه القواعد أن نلبس الهدف والمنهج بغطاء مؤثر وضميري بحيث لا نبدي من الطرح إلا ما هو سريع وشديد التأثير على الفرد داخليا ومن خلال الداخل يتم التأثير شخصيا على سلوكياتها الخارجية، مما يجعل وكأن الأمر حدث طبيعي لا صلة له بما يجري خفاء أو بتخطيط ما، النقطة الأخرى أن هذه الاستراتيجيات تراكمية وليس مثل الأيديولوجيا تطرح وتنضج من خلال أسس ثابتة وينتظر التفاعل معها بشكل تدريجي، أستراتيجية العقل المثقوب لا ترتبط بالزمن كإطار وإنما بالنتائج دون أن تحدد مديات أو نقاط نهائية للتوصل للنتيجة، فهي مثلا قد تتوجه تربويا وأخلاقيا وفكريا وبالأخص من الجانب الديني لتتحول لاحقا إلى مسلمة تاريخية يتعامل معها الجميع على أنها جزء من الضمير العقدي.
من صفات الاستراتيجيات التي يطلق عليها أستراتيجيات الخلق والتكوين أنها تتحول مع مرور الزمن جزءا من الإرث الإنساني وتنزع عن نفسها الخضوع للمؤثر الصانع لتتحول إلى مؤسسة أجتماعية فكرية تختلط مع القيم الرأسية وأحينا مع المثل والعادات الأجتماعية الراسخة، وهنا يكسب مطلق هذه الأستراتيجية أو نتائج النجاح المبتغى منها، فمثلا حينما أطلق الكهنوت الديني وعبر مراحل التأريخ مقولة (دع عنك البحث عن المستقبل لأن الله هو من صنعك وخطط لك ورسم خطواتك بدقة ولا يمكن الفرار من هذا التخطيط)، إنما أراد من ذلك ترسيخ فكرة وأنتزاع أخرى، الفكرة المطلوبة هي أن يركن الإنسان لقدره وكل النتائج من تجاربه لا قيمة لها طالما أنها لا تنفع في تغيير شيء مكتوب ومرسوم، الفكرة التي أراد إسقاطها أن الإنسان مسئول عن صنع قدره وعليه السعي في ذلك حتى لو تعارضت نتائج السعي مع واقع الحال، فلا بد من الملازمة وتكرار التجربة والإصرار على تجاوز الواقع، أي أسقاط فكرة ان الإنسان في وجوده الإيجابي خالق ثاني لنفسه بعد ما خلق ليكون عنصر أنتاج وليس عنصر أنتظار.
أستراتيجية العقل المثقوب ج1
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا