في محاضرة ألقاها الشيخ أحمد الكبيسي في عمان
مطلع آيار/مايو المنصرم، حيث تناول فيها العراق أرضاً وشعباً وتاريخاً. فإن رؤيته الدينية التي غالباً ما تتسم بالشفافية والدقة، فإن رؤيته السياسية هنا جاءت بضبابية تثير الريبة. حتى أن فقهه السياسي قاده، لسبب ما، إلى خطأ واضح عند قرآءته للواقع العراقي.أقول لسبب ما، إذ ليس من المعقول لعالِم بمنزلة الكبيسي أن يتكلم بلغة تضادد الحق وأهله، وهو يرى حكومات الإحتلال المتعاقبة تتقدم ببطىء “ثم يأتي الخير الشديد”!! وكذلك عندما يشير بشكل عابر إلى ثورة العشرين وقيام دولة العراق الحديث، ثم يعقد معها مقارنة مجحفة وفق رؤية مذهبية الحُكم القائمة الآن. فهذا الأمر قد أثار فينا إستغراباً وحيرةً أوجبت علينا أن نرد بإيجاز بغية الطرح الموضوعي والعلمي.
يقول الشيخ الكبيسي ما يلي:
“عندما قامت ثورة العشرين وجاء الإنكليز ونودي بالعراق دولة. أفتى شيعي بأنه يحرم على كل شيعي أن يشترك في الأجهزة الحكومية والعمل السياسي وهذا لا يجوز وهذا كفر. فأنحسر الشيعة ولم يشتركوا في الحكم فصار العراق سنياً، والآن إن شاء الله نفس الفتوى تصدر عند السّنة، لا يجوز للسّنة أن يشتركوا في الجيش..الخ. لأن هذا شرك فصار العراق شيعياً”.
ثم ينتقل الكبيسي إلى الوضع الحالي لكي يربط بين الوضعين ماضياً وحاضراً على أساس المذهب الديني الحاكم، ويطرح رؤيته قائلاً: “أن هذا عدل، واحدة بواحدة، ولهذا سيعود الشيعة والسّنة قريباً”.
الواقع هناك خلطاً قسرياً لتناول الحقائق من جهة، ودغماً للمفاهيم الجوهرية من جهة أخرى. إذ أن ثورة 1920 لم يكن للمراجع العربية الشيعية أية أفتاء بعدم الإنتماء الوظيفي أو السياسي لدولة العراق التي تأسست عام 1921. فلو كان ذلك كذلك ما قاد الثورة المراجع الكرام أمثال السادة: أسد الله الأعرجي، محمد الحبوبي، محمد الصدر، نور الياسري، ومن شيوخ العشائر شعلان أبو الجون وغيره من الذين تظافروا مع عموم الثوار العراقيين عرباً وأكراداً، من الشيخ ضاري المحمود (جد المجاهد الشيخ حارث سليمان الضاري) إلى الشيخ محمود الحفيد وجودت الأيوبي وغيرهم الكثير.
أن الذي أفتى وشجع على عدم التوظيف بالدولة الجديدة هم المراجع الفارسية المقيمة بالنجف الأشرف لأسباب صارت معلومة حتى عند أنصاف المثقفين. وإن تكلمنا بلغة الإصطفاف المذهبي، فقد كان العرب الشيعة ضمن “جمعية النهضة الإسلامية”، بينما العرب السّنة في “جمعية حرس الإستقلال”. ورغم لكل من الجمعيتين وجهة نظر مغايرة، لكنها إجتمعت على هدف واحد: إخراج المحتل البريطاني من العراق.
أما “نفس الفتوى تصدر عن السّنة”. فقد سمعناها من تنظيم القاعدة القادم لنا والمدعوم من ملالي إيران الصفويين! وأن “هيئة علماء المسلمين في العراق” قد أمتنعت عن المشاركة بالعملية السياسية كونها من نتاجات المحتل، لكنها لم تُحرم أهل السّنة من الإشتراك. وشتان بين هدف الموقفين.
وعليه كيف يجوز للشيخ الكبيسي أن يعقد هكذا مقارنة جائرة؟ ولماذا يطرحها دون ذكر المحتل الأمريكي؟ وماذا عن الإحتلال السياسي الإيراني وصمت المراجع غير العربية بالنجف؟ هل كان الإحتلال البريطاني وإيران مختلفة عن اليوم؟ أم أن دوافع ثورة العشرين مغايرة عن وطنية فصائل المقاومة العراقية؟
أن الحديث عن عودة السنة والشيعة ليس وفق مبدأ التسلسل التاريخي التصادفي للحُكم “واحدة بواحدة”، كما يتصورها الكبيسي. وإنما هي قائمة أصلاً بين بواسل المقاومة المسلحة والقوى المدنية المناهضة للإحتلالين الأمريكي والإيراني ولإمعاتهم وأذنابهم من العراقيين الخونة.
أما كلام الكبيسي عن أن “محنة العراق عظيمة”. فأنه من الواجب والإنصاف أيضاً أن يتطرق بمحاضرته، ولو بالإشارة الخاطفة، للجرائم والدمار الماحق الذي أرتكبه المحتل الأمريكي والمدعوم بفرق الموت الصفوية وعصابات الموساد الصهيونية الذي أوصلت العراق إلى الدرك الأسفل من الجحيم. بل وجدنا الشيخ يتناول حكومات الإحتلال بلغة تنم عن التفاؤل المستقبلي، حيث يقول:
أن “كل مجموعة تسلمت الحُكم في العراق بعد الإحتلال قامت ولو بأنملة. مجلس الحكم، وهو أسمه حكومة عراقية، والناس بدأت تطمئن بأنه صار هناك حكومة وعهد الإحتلال أنتهى، فبعدها جاءنا أياد علاوي إلى حد ما عمل ولو بأنملة، وجاء بعده الجعفري، وعمل ولو أنملة، والمالكي ولو أنملتين، فالمالكي في الحقيقة أكثرهم نجاحاً”! ومن الأنملة إلى “الشبر” ثم “الباع” يأتي “الخير الشديد” حسب إعتقاد الشيخ الكبيسي.
أن تفكيك النص أعلاه يدلنا على نحو مؤكد بأن الكبيسي يؤيد العملية السياسية الجارية تحت حراب المحتل. وإذا كان هذا شأنه، فمن الضروري إذاً تبيان ما يجب ذكره وبيانه من مجموع أقواله.
أولاً: أن مجلس الحُكم الإنتقالي الذي أعتبره الكبيسي “حكومة عراقية”. فأن السفير الأمريكي السيء الصيت بول بريمر هو مَنْ أسس هذا المجلس وأحتفظ لنفسه بحق النقض تجاه أي قرار يتخذه المجلس. فبدأ بتدمير البنية التحتية للدولة، وسرقات طالت المال العام وثروات البلد، وتجيش الحس الطائفي والعرقي وغيرها الكثير التي صارت معروفة عند القاصي والداني. فكيف نعتبرها حكومة عراقية وأن الناس أطمأنت لها، بل مَنْ قال أن “عهد الإحتلال أنتهى” من الأصلاء العراقيين.
ثانياً: أن حكومات الإحتلال التي قدمت للعراق “ولو بأنملة” حسب رأي الكبيسي. فهذا يعني أن الكبيسي يعطي شرعنة للإحتلال ذاته. إذ لا يمكننا أن نفصل بين المحتل الباطل المدلس للحقائق وشخوصه الذين تحالفوا معه وأستلموا دفة السلطة التي بها فتكوا العراق وسرقوا ثرواته. أن هذا موقف مشين، لأنه يضادد الحق ويجافي الحقائق. ففي عهد علاوي قام المحتل الأمريكي بضرب النجف وثلم حجراً من مرقد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وكذلك ضُربت الفلوجة بالفسفور الأبيض المحرم دولياً. وفي عهد الجعفري تم تحويل النفوذ الإيراني إلى إحتلال سياسي فاضح، حيث دُمجت الميلشيات الصفوية بوزارتي الدفاع والداخلية، وجرى القتل الطائفي والإعتقالات والتصفيات بالبزة العسكرية تحت غطاء قانوني مريب. أما المالكي فقد أدخل العراق وشعبه إلى دهليز دامس يزداد حلكةً وسواداً منذ خمس سنوات، ولا زالت أمامه ثلاث سنوات قادمة. فكيف صار المالكي “أكثرهم نجاحاً”؟
ثالثاً: أن الأقيسة التي طرحها الكبيسي من أنملة وشبر وباع لتصل إلى الخير المطلوب، فيها مغالطة مكشوفة وإستغفال للعقول. فالعراق في سنته التاسعة من الأحتلال، والأوضاع تنحدر نحو الهاوية من التأخر في كافة المجالات والميادين الخدمية والإجتماعية والعلمية والتربوية والصناعية والزراعية الخ. بينما الشيخ يتحدث عن تقدم أنملة، ففي أي زمنٍ إذاً سيصل العراق إلى “الخير الشديد”.
أن القراءة السياسية التي طرحها الشيخ الكبيسي عن الواقع العراقي خاطئة بمضمونها وأهدافها ومعانيها. وكأن ثورة الشباب التظاهرية التي إنطلقت في 25 شباط/فبراير وتصاعد أعداد الشهداء الثوار، أو تقارير المنظمات الدولية عن الفساد المالي والإداري التي إحتل العراق فيها المرتبة الثانية عربياً، والثالثة دولياً، أو عشرة ملايين من العراقيين بين قتيل ومخطوف ومشرد وأرملة ويتيم، لم يحسن الكبيسي قرآءة واقعها لكي يتوهم تباشير المستقبل مع حكومات الإحتلال.