نارين عباس
اللهفة الأولى التي تولد معك ..وتموت معك ..المدينة التي تقترب إلى جوفها وتبتعد عنك ..والحب المزروع في خلايا الجسد كتلك الألغام التي لا تعرف من متى تتفجر لتفجر الأشياء الساكنة من حولك ..
برلين ..المدينة الحسناء ..ذات الوجوه الكثيرة ..مدينة تسقط بين يديك أو تسقط فيها ..تبتلعك ..أو تتقيأ على أرصفتها ..
وحيدة.. أسير في شوارعها ..الثلج يغطي كل مكان ويملئها سحرا ووحدة وكآبة موحشة
برلين و تشبهين عروسا بثوب العرس الأبيض المتلألئ حولك ..بينما تنتظرين رجلا يمسك بيديك … إلى السماء …
كم أنت جميلة هكذا يا برلين ومرهفة الأحاسيس ..احبك هكذا بريئة تتراقصين على أصابعي رقصاتك الخفيفة وتنزفين دماً .. فيتساقط على ثوبك اللؤلئي…
شوارعك المكتظة بروائح الأجساد الغريبة والمهاجرين وتلك السيارات وهذا الهدوء السرمدي يزحف نحوك .. فيسقط على جسدي
كتلك الموسيقى التي تجعلني أتراخى وأنام بشهية … وعمق .. كبيرين ..
تحملني أقدامي إليك عبر شوارعك الطويلة في أول يوم تعرفت عليك كانت هي إطلالتي الأولى عليك .. اشق طريقي بين هذه الجموع الكثيرة من الأجساد التي تبحث عن أجساد أخرى ترتدي فساتين الحب الممزق..
إنها الحلقة الحلزونية التي لا تنتهي هنا في هذه المدينة الكبيرة ..اصطدم بالآخرين في طريقي عندما تأخذني الذاكرة الوقحة, صوب البعيد … ..
واعتذر منهم لأنه كان رغما عني وليس رغبة مني ..
أتأمل حياتك الصاخبة وصخب قلبي بضجيجك ..إنهما يشبهان بعضهما البعض ..هادئة من حولك وفي داخلك تعج الأصوات ..وكذلك أنا يتهمونني بالهدوء القرف ..وفي داخلي ..براكين الأصوات تتعالى مثل الكثيرين من الذين سقطوا من فضاء أحلامهم ..على أرصفتك الرصينة ..
هكذا هي الأقدار ..بشر يقابلون بشرا ..وتبدأ قصص العشق بينهم ..وتنتهي بلحظات مؤلمة ..
هنا في هذه المدينة عندما حطت قدماي ..كانت رائحتك ممزوجة بالرطوبة وأوراق الأشجار التي تفتحت براعمها بخفية ..هذه الرائحة لايمكن أن تشبه رائحة بلادي ..حيث رائحة العرق المركز تحت الإبطين ورائحة ذلك الخبز الشهي من سنابل قمح مدينتي السمراء القابعة في خريطة مهترئة ..العرق ورائحة الخبز يمتزجان ببعضهما البعض ..والغبار الجاف تذروه الريح نحوك رغما عنك كلما أطلقت شهية لأحلامك المتربعة على عرش عقيم
شيء غريب انتابني في هذا المدينة المكتظة بينما كنت انظر عبر نافدة غرفتي الصغيرة في الأيام الأولى من قدومي إليها من بلاد الشمس وانأ أتحسس الدفء المصطنع بين هذه الجدران البيضاء من حولي ..هذه المدفئة القديمة التي انتظرتني بهذه الزاوية من هذه الشقة الواقعة في شارلوتن بورك في إحدى ارقي الأحياء ..كم اشعر برغبة أن أعرف من تدفأ هنا قبلي ..ومن ثم بعدي ..
في أولى الأيام التي قدمت منها من شرق البخور والسحر والشعوذة ..وكثرة الكلام ..وقلة الأعمال ..والنوم على أسطح مدينة تقذفك من رحمها كل يوم ألاف المرات …من مكان ليس للانسان وجوه ..فقط وجوه تعيسه غطتها الشمس بحرقة كثيفة ..لتصبح طبقة فوق طبقات الجلد ..وكأنك تحمل قناعا ليس لك …
من بلاد كتب عنها المستشرقون على أنها بلاد دفء وسحر ومصابيح ملونة ..ونساء جاريات وسمراوات عذبة كعذوبة ينابيعنا القديمة في قريتنا التي اختبأت وراء تلال مجهولة الهوية ..تلك الينابيع التي صورت صورة وجهي في داخلها لامرأة بلا حدود ..مع أسماكها الصغيرة المبعثرة على وجهي المرسوم
أنا فتاة الشرق التي, لم أمشي يوما في شوارعها إلا فقدت حذائي الجديد لشدة تكسر شوارعها المليئة بالقمامة.
أنا فتاة الشرق التي تحمل الشرف بين فخذيها..ولم اعرف ماذا حمل الآخرون بين أفخاذهم يوما ؟؟
انا خريطة الشرف التي تنقسم وتنطوي ..وتتدحرج من حولهم لتعود … مازالت عذراء والشرف يكسوها حائطا شفافا ..
أنا فتاة الشرق التي لاتتحرك ولا تتفوه وتبتسم في وجه القدر مهما كان طعمه علقماً ..تمثل دور مهرجة تارة .. وتارة أخرى دراما يومية في مجتمع شبه نائم ..
أنا الشرف الذي يمشي فتمشي معي مئات العيون التي تراقب جسدي كي يتحول إلى جسد بلا شرف
إما أن أبدأ حياةَ بيد رجل شريف ..؟؟ أو أنتهي بيد من يقتل الشرف..؟؟
أتابع سيري في شوارع هذه المدينة التي تعودت أن تكون رطبة وممزوجة بأحلام كثيرة ..
في قاع المدينة واحد مراكزها المهمة ..أراقب الدكاكين الصغيرة التي شيدت لأعياد الميلاد ومليئة بكل شيء يفكر فيه الإنسان أو لم يفكر فيه
انها برلين التي تصنع وتعرض عجائبها وتبهرني بسحر تعابرها في هذه الحياة ..
اتقدم نحو شجرة يسوع التي تتوسط هذه الساحة المزينة بالأضواء والأشياء الجميلة ..انه شهر ديسمبر
كبيرة هي هذه الأشجار, التي أبدو, أمامها عندما اقترب منها, كدمية صغيرة
واشعر بتلك الأحلام التي كنا نتمنى أن تتحقق في طفولتنا..في الشرق..
يفتح المرء عيناه على الأحلام وينام على الأحلام .. لا أحد يعرف بماذا تفكر الجمجمة وهي لا تكلف الكثير سوى التأمل لبرهة من الزمن
اتقدم نحو الشجرة أكثر ..اصمت ..أدور بجسدي لبرهة انظر إلى السماء
نثر صغيرة من الثلج تتساقط نحوي ..ارفع يداي نحوها أحاول أن التقطتها
وكأنني التقط أحلامي الصغيرة واحدة تلو الأخرى ..اشعر ببرودة عذبة تلسع وجهي وتذوب أحلامي على جسدي المنتظر
للتحول إلى قطرة من الماء تختفي بين ثنايا معطفي الأسود..هذا اللون الذي يحميني من الألم ..
أسير بجسدي في هذه المدينة ولا اعرف أين أو كيف أبدء … ولمن أبدء الحياة التي هجرتها عصافيرها
أهو الهرب ؟؟ من الأيام ؟؟ من ساعات الضجر القاتلة ؟؟ ..ساعتي تصرخ في وجهي ..واصرخ فيها ….كيف اخلق عالما أكون فيه… امرأة … لاشيء أخر ؟؟
واجعل من نفسي ترتمي في أحضان الأحلام من جديد ..
إلى أين أنا ذاهبة لا اعرف ؟؟
تأخذني خطواتي إلى أوربا سنتر ..ينفتح الباب الزجاجي أمامي ..في ممرها الفخم أشياء جميلة
أتقدم نحو واجهة المجلات والجرائد ..جريدة الحياة بين يدي أتصفحها قليلا ..لاشيء
جديد سوى حروب جديدة ودمار في كل مكان ..
القي نظرة على الأبراج حتى هي روتين عادي وتوقعات تافهة تكذب علي كما يكذب الآخرون علي
يرمقني صاحب المحل بنظرة فيها عتاب ..القي الجريدة من يدي وأتابع سيري ..فقد أخافه لون شعري الأسود القاتم الذي قد ينحدر من أصول إرهابية أو أي شيء أخر صار يخيف الأوربيين بالسنوات الأخيرة …
الى القاعة الجميلة أسير ..أتامل الساعة المائية في وسط أوربا سنتر
رائع أن أشاهد الساعة وهي عبارة عن أنابيب من الماء صنعت على شكل ساعة .
أنابيب للدقيقة والثانية ..إنها تركيب مدهش ..من اخترعه ياترى؟؟ لابد أن صاحب الفكرة كان حر طليق حتى أبدع هذه الساعة الغريبة التي تدور بواسطة الماء
أكيد أنه لا يعاني من الغربة أو الاستبداد والتهميش في الوطن ولم يكن يفكر في ذويه ليل نهار وأكيد أيضا انه لا يعاني من ضغوط الحكومات على جمجمته ولا يتهمونه بالعمالة لإسرائيل أو الخيانة
لابد انه يستيقظ في الصباح من اجل فكرته وليس من اجل أن يفكر كيف يأتي بمصروف اليوم من اجل قوت عائلته ..
لا بد ..لا بد ..
في احدى زوايا القاعة ادخل إلى المقهى الذي أتردد إليه كثيرا من اجل الكتابة والتأمل والترويج عن نفسي
أتخلص من معطفي وأجلس على إحدى الطاولات المطلية باللون الأسود اللون القوي من بين كل الألوان ..
طلبت قهوة مع الحليب وبعضا من السكر الأبيض ..وكعادتي فتحت حقيبتي التي أخبئ فيها أفكاري وهمومي ..أفكاري التي احملها أينما أكون لتكون بالقرب مني
اشعر بأنها طفلتي التي لابد أن أشم رائحتها ..واشعر بالدفء لان هذه الأوراق هي الوحيدة التي تستمع إلى جنوني بدون أن تعكر صفو مزاجي المتقلب أحيانا
المتقلب من الفرح إلى الحزن ..أتحول أحيانا إلى أرنب بري أعدو في الحقول والمروج الخضراء وأحيانا أكون طائرا يغرد ..
أحاول بأناملي المكتئبة أن اكتب أشياء كثيرة ..كثيرة بدون نهاية ..
ارجع بذاكرتي إلى الوراء وأتمرجح في أرجوحة إمبراطورية والدتي عندما ذكرت لي مرارا أن المقاهي عيب وأنني سوف ارقص تياترو امام الناس في يوم من الأيام
هكذا كانت تردد كلماتها عندما يجتاحها الغضب من أشياء كثيرة من حولها تجعلها أسيرة في بقعة صغيرة وتتلاحم حمم الغضب مع ما كنت اقترفه في طفولتي من أشياء صغيرة تزعجها كأم !!
تغضبها فتتحول إلى بركان غاضب وتضربني بنيران حممها الملتهبة ..
أمي وبختني كثيرا في طفولتي على تصرفاتي لان كل شيء كان عيبا حتى أنني أحيانا كثيرة اضحك وأتسلق السلم الذي يأخذ بجسدي الصغير إلى سقف البيت وأمي تنتظرني بجسمها الضخم
السلم الذي عجزت عن تسلقه لأنها أقسمت أنها عندما تمسك بي سوف تلتهمني من غضبها ..بدفعة واحدة ..
والآن أقول لنفسي كيف تسربت كلمة تياترو إلى أمي الجاهلة التي لم تتقن الأبجدية ولم تستطع القراءة والكتابة في عمرها كله..ذلك العالم الذي لم يشهد أي مشهد من مشاهد المسرح ..
ربما اليوم لدي القدرة على اختراق أبواب العيب الذي يسمونه عيب ..فالمقاهي و السينما ليست سوى أماكن مفتوحة للتواصل الاجتماعي أنتجتها الحداثة البشرية لترفيه النفس وصقل الشخصية ونمية ذائقة جديدة ومفتوحة باستمرار. ..
في هذا المقهى أراقب العالم المتحرك من حولي ..عالم متحرك لا ينتهي عن الحركة ..أحاول أن أرى علامات الحزن على وجوههم وكأنني لا أراها ..
أنا الوحيدة في هذه المدينة التي تعاني من حزنها الداخلي الذي لا ينتهي ..ولماذا ..!!
لماذا تعلمنا الحزن من أجدادنا وها هو يسري في عروقنا ممتزجا بالدماء …
لماذا جئت إلى برلين وكيف جئت؟؟ عصفورا صغيرا تائها بين أشجارها ومساحاتها وشوارعها الكثيرة ..
اشعر بصداع كثيف في جمجمتي ..من كثرة التفكير ..
اشعر برغبة جامحة للبكاء وسط كل أولئك البشر ..الذي يرمقونني ويرمقون جلوسي في هذه الوحدة مع أوراقي ..فهم نادرا مايشاهدون فتاة أجنبية مهاجرة مثلي
تحمل كتبا وأوراقا وجالسة في مقهى وسط هذه المدينة ..لأنهم تعودوا أن يشاهدوا الشرقيات مع دزينة من الأطفال في الشوارع العامة والأسواق بعيدين عن هذه الأجواء …
اشعر بألم في أسفل الظهر من كثرة الجلوس على هذا الكرسي اللعين
سوف أعود ..أعود إلى وطني الصغير الذي اختاروه لي بدون أن يأخذوا رأي ..
أتجه إلى النفق .انتظر المترو …يقترب مني ..أتقدم نحوه ويبلعني ككل مرة في جوفه ..
هربت من سجني هذا اليوم أريد أن احلق عاليا ..عاليا جدا أريد أن اهجر مكاني من جديد كما هجرت القامشلي بدموع كثيرة ذابت مع الأيام في الطريق إلى هنا ..
أريد العودة ولكن أين الطريق ومن يأخذني في أحضانه من جديد ويعيد إليّ رائحتي القديمة ؟؟ رائحة القمح في ثنايا جسدي مازالت تفوح وتتحول إلى سنابل شقراء على أطرافي
أريد ان أتحدث مع احد ما .احد يفهم جنوني ويتسلق الأحلام معي ويمشي في شوارع هذه المدينة الكبيرة
أناس كثيرون يحيطونني من حولي لكنهم بعيدين عني الآلاف الكيلومترات .بعيدين جدا عن ما في قلبي من الآلام والمشاعر والأنوثة الضائعة في برلين ..
يستغربون مني إن قلت لهم أنني ابحث عن وطن فمن يعطيني من يمنحني أن أعيش داخل حدود لا تقتحمها الغربة ؟؟
ويغرق قلبي في بحر من الأحزان تتوسطها جزيرة اللحظات الجميلة التي اصنعها بنفسي
ارتدي ملابسي الجميلة كل يوم واضع المساحيق الملونة على وجهي الشاحب أحيانا كثيرة كي أغطي فيها حقيقة امرأة تتراءى على وجهي كمرآة
وتتداخل أسنان المشط في شعري الشرقي الأسود الذي يشبه الليل بدون نجوم تضيئها ..
أريد رغما عن الأيام أن أكون امرأة تتحدى كل الصعوبات ومصممة على الحياة ..
أريد أن اذهب إلى مكان أخر ..بعيدا عن هنا
إليك سوف أتي أيتها الجبال ..يترائ لي أنني أعدو واعدو في طريق طويلة وشعري يسابق الريح..أجهش بدون توقف في بكاء لذيذ عذب ..
آتية إليك أيتها الجبال العالية فخريطة الطريق إليك رسمتها مع الأيام وها أنا الآن فوق سفح هذا الجبل
أدور بنفسي فوق هذا العلو وتدور الأرض بي ..أشعر أن ثقلا كبيرا انزاح عن صدري..انظر إلى السماء وصفاء لونها أغمض عيناي واستلقي على الأرض هنا ..
اصرخ بكل قوتي وانتظر أن تصطدم أصواتي بهذه الأحجار الصامتة من حولي لتوقظك من صمتك وسباتك العميق
لو تمنيت أن أكون حجرا مثلك
لو تمنيت أن أكون ذرة غبار وصلت إليك توا مع الريح بصدفة غير معلنة عنها
لو تمنيت ..لو تمنيت …
لتخرجي أيتها الجرثومة الخبيثة من أحشائي التي تسربت إلي عبر الماضي وسكنت في جسدي وأخذت لنفسها مسكنا غير مبالية بتكاليف السكن وكأنها تريد أن تقيم في أحشائي ابد الدهر..
الغيوم تراكمت كعادتها في هذه المدينة أصوات الرعد تخترق أذناي ..أخاف من هذه الأصوات ولكن هنا على هذا الجبل أين اختبئ ..؟؟
وقفت صامتة وأغمضت عيناي من جديد ..لأتأمل هذا الكون ..المطر يتساقط على جسدي ارفع وجهي إلى السماء ويزيح عني تلك الألوان القبيحة التي تخفي حقيقة امرأة تخبئ الحزن في داخلها وترسم وجهها
بألوان كذابة ..هذا المطر سوف يعيد إلي الواني الحقيقية.
المطر يهزني ثم يرقص معي ونصبح حبيبات فوق هذا الجبل الذي يطل على تلك المدينة ..التقينا بعد سوء تفاهم دام طويلا واعتذرنا عن تأخرنا هذا ..سامحنا بعضنا البعض عن أخطائنا وجمعنا الحب إلى الأبد
أصبحت قطرة من المطر على تلك الأحجار بل زهرة صغيرة تتدلى من بينها لتعلن عن الحياة
هذا المطر يريد مني أن انبت من جديد كزهرة نسرين صغيرة في أغنية محمد شيخو..
اضحك من أعماقي كمجنونة ..قهقهات كبيرة تصطدم بأحجارها
أخر قطرات المطر تتساقط على شفتاي ..تداعبني وتودعني وها هي الشمس تترائ لي من جديد لكن عقلي مازال يسبح في محيطات كبيرة
أحيانا أكون في كوكب أخر وأحيانا أكون في قاع البحار ابحث عن خاتم أضعته لحظة قبلتي الأولى ..
يرن جرس الهاتف بالقرب مني افتح عيناي ..واعرف أنني كنت في حلم هو أجمل من الحقيقة …ككل مرة!!
2012 برلين