أحلام الفقراء
كُنّا ثلاثةُ صبيان وأنا أكبرهم بعينيين خضراوين نفيضُ صحةً وقوة كبراعمِ الورود في أكمامها أو كالفراشات الزاهية في حديقةِ الورود، ملائكة في بشرةٍ بيضاء ناعمة مُشربةٍ بحمرةٍ خفيفة، أحلامنا وأمانينا كانت تختلف عن غيرنا لم نُفكر بالمال، أو الغنى أو السيارات الفارهة حياتنا بسيطة كلّ ما نرجوه بيتاً هادئاً ترفرف عليهِ السعادة بأجنحتها البيضاء ويغدق علينا والدينا معين حُبهما الذي لا ينضب.
كان السلام الربيعي يهيمن على قريتنا.
أبي رجلٌ بسيط يعملُ في مخبز ونسكنُ في غرفة هي للنومِ والطبخ والأكل والدراسة، يعملُ من طلعت الشمس الى مغيبها، كان في ساعةِ العودةِ الى البيت جالسا على الأرض في حالةِ إعياءٍ شديد لا يستطيع معهُ أن ينصب قامتهُ، كنتُ شديدَ الحب لأبي والأعجاب به ، كان يُفاجئهُ ألمٌ شديد بدفعةٍ واحدة كأنهُ سكين في أسفلِ ظهره أشعرُ بهِ يئنُ في صوتٍ مكتوم مخافةَ أن يسمعهُ أحد، كان يشعر بصدرهِ ضيق وقلبهُ يثقل تحت عبء خانق من خوف وحزن غامضين لأن الليل في القريةِ مخيف خطر، وربما لأن شيئاً مبهماً في نفسهِ كان يقول لهُ أن النهارَ لا يموت وحدهُ
أبداً وإنما يموت معهُ منّا شيء.
كنتُ في الصف الثالث ابتدائي وأخي في الصف الثاني ابتدائي وأخي ضياء لم يلتحق بالمدرسة بعد لصغر سنه، كنتُ أنظرُ الى أبناء القرية الميسورين وهم يرتدون البنطال الأسود والأزرق والأحذية الجلدية حيثُ كُنّا نرتدي البنطال المُشجر طلبتُ من أبي أن يشتري لي بنطالاً أسود وأخي طلبَ بنطالاً أزرق ووقفنا على قارعةِ الطريق ننتظر عودة أبي من عملهِ وهو يحمل لنا ما طلبناه، جاء والفرحة تغمرنا ارتديت البنطال وكذلكَ أخي ونحنُ في غاية السعادة وأخي الصغير ينظر الينا، جلسَ أبي الى جوارهِ يُحدثهُ ويُطيّب خاطره، لا تحزن ياصغيري سأشتري لكَ البنطال، أطيافُ من السعادة ارتسمت على عينيهِ الجميلتين وتهلل وجههُ فرحاً.
افترشنا الأرض لننام همسَ في أذني أخي الصغير عندما تأتي غداً من المدرسة أريدُ أن ارتدي بنطالكَ لأرى نفسي في المرآة كيفَ أبدو!
قلتُ لهُ لا بأس ياأخي
وفي اليومِ التالي ذهبتُ الى المدرسة وأنا في قاعةِ الدرس همس في أذني المعلم بأن أبي يستعجلني بالعودة الى البيت، فقلتُ في نفسي أكيد أخي ضياء ألحَ عليه للهفتهِ بارتداء البنطال، كانت ثورةُ روحي عنيفةٌ جداً، أسرعتُ الخُطى لأني متلهف للقاء بأخي الصغير، كان يطمئنُ لي ويحسُ بالسلام معي، وما أن وصلت وجدتُ ضجة أمام البيت ركضتُ كالمجنون وأمي تنوحُ وتبكي وتذكر اسم أخي ضياء، ربما حدث شيء لأخي ضياء كان صوتُ أمي حزيناً ..كانت رسالة موت الموقف مُذهل صفعني تبين أن عجلةً مرت من أمام البيت وهو ينتظرني فدهستهُ!
شؤون صغيرة تهاجمني تذكرني بهِ الشمعة التي كانت في حياتي انطفأت، كان زهرة ومطراً وطفلاً أحبُ من كلِّ أطفالِ الدنيا! وكأني أشمُ رائحتهُ في كلّ مساحةِ جسدي! ياأحبُ الأطفالِ الى نفسي الزهرة التي لن أشبع من ذكرى روائحها.
ياحامل التابوت توقف لي عهد مع أخي أدور في البيت ألملمُ من أشيائهِ ما استطعت ثم ادخلُ في ضبابةٍ كثيفةٍ بيضاء، شيء ما تعطل ساعتها، خيطٌ ما قد انقطع، أحسستُ أني في هذا اليوم وحيد فقدتُ الدفء والفرح وصوت ضياء ربما أحب كلُّ منّا الآخر بعمق، وحين نتشاجر كان كلّ منا يضمُ أخيه الى صدره.
وما أن تمت مراسيم التكفين لم أتمالك نفسي والوعد الذي قطعتهُ عليه خلعتُ بنطالي
ووضعتهُ في التابوت وكتبتُ على تابوتهِ أُحبك.