عبدالامير الركابي
يؤكد مثال ” الوهابية”، مآلاتها وفشلها، حقيقة جوهرية تقول: بان الكيان الكوني الاحادي الجزيري، انتهى دوره، ولم يعد مؤهلا لتكرار ماحققه خلال الثورة الاسلامية الابراهيمية المحمدية، يوم عم على المنطقة، ولعب الدور الحاسم في تغييرها، وحفز فيها الدورة الحضارية الثانية، قبل ان تعود هذه وتتوقف وتنتكس، ليصبح الدور الجزيري والنبوة الخاتمة من الماضي، بينما يستمر ويتكرراجترارا داخل كيانات مطابقة للدورة الحضارية الثانية، تجمدت عندها، ماعدا حالة العراق، الذي كان بؤرة صعود الدورة الحضارية الثانية لاعلى قمة متاحة، قبل ان تدخل تلك القمة المازق التاريخي، ولاتعود رؤيا النبوة الخاتمة، قابله للفعل او لادامة وضمان استمرار الصعود الحضاري، الى ان حل بعد ذلك طور من ” الانقطاع الحضاري”، وغرق العراق في الفوضى والاحتراب، والكوارث المتواليه، بحيث محيت آثار وبقايا ومقومات ومجتمع الدورة الثانية الحضارية العباسية.
يبقى من تلك الدورة المنهارة، شاخص تاريخي عبقري وحيد، يتمثل في ” المهدوية “، معبرا عن الايقاع التاريخي الكوني التوحيدي، الخاص والمختلف كليا عن الايقاع العام المحيط بالعراق. فمسالة الاختفاء والغيبة والظهور، هي نحت مستقل ومختلف نوعيا عن النمط التفكري السائد في المنطقة، والذي هو في حالة سكون وتكرار لافكار، يقول العراق وانحداره الاقسى، بانه انتهى وخرج من دائرة الفعالية المستقبلية. واليوم، واذ يذهب شخص مثل الاستاذ احمد الكاتب الى تلك الفكرة، ويحاول التعريض بها من زاوية الوثوقية فانه، يتصرف من منطلق الخضوع الكلي لمفاهيم الماضي السلفية، ولمفاهيم المنطقة المحيطة بالعراق، مع انها غارقة في القيم الباقية من الدورة الثانية المنتهية، فهو في جل قناعته وارفعها، يريد الاسلام ” صافيا”، ويريد تنزيهه مما علق به من ” انحرافات ” مذهبية، فيعود بذلك الى امر انتهى مفعوله منذ الف عام، ولم يعد قابلا للبعث، ولاهو متفق مع الحياة، ولايصلح ابدا للحاضر، ما يثبت بان القناعات السلفية، بما فيها تلك التي تلبس لبوس الخروج من الجزئية الى الاصل والكلية،هي الطاغية على الافكار والتصورات، ومستمرة في العمل مثل شبكة هائلة مرمية على العالم العربي والاسلامي، تحجب عنه على مدى القرون، نور عالم الحقيقة، وتمنعه الا من الدوران داخل هذه الدائرة المنتهية، الفاقدة لاي مقوم حياتي حاضر.
ومما زاد ويزيد في الوطاة، ويحفز ويساعد على طغيان مفاعيل الدورة الثانية الحضارية المنتهية اليوم، حضور الغرب ونهضته، وانتشار مناهجه، وهيمنة تصوراته، وتهديده المباشر العسكري والاقتصادي والقيمي، فكل هذا استثار في المنطقة نزعة للرد، وسادت اشكال من المشاريع ومن ردود الافعال، تصورت انها ضرورية ولازمة للحفاظ على مقومات الشخصية والحضارة العربية الاسلامية الاساسية، فكان الرد السلفي السعودي، او النزعات الاخرى الاصلاحية الاسلامية، ومختلف تجليات السلفية الاخرى التي تشكل تاريخا وتجليا راهنا، لاعلاقة له بالاسلام الاول، الا انها تستلهمه، وتريد احضاره وذلك لسببين، اولا لانها بنى ساكنه فكريا وبنيويا، لم يطرا عليها اي تتغير منذ 14 قرنا على الصعيد المجتمعي، لهذا لايتوقع لها ان تنتج افكارا ولاتصورات خارجة عن، او مغايرة لتلك البنى. وثانيا لانها غير مؤهلة اصلا لاحداث الانقلاب في الظروف الحالية، فالجزيرة العربية التي كانت مصدر الانقلاب الابراهيمي الاسلامي المحمدي، نهضت بتلك المهمة خلال ظروف معينة، هي ظروف الدورة الحضارية الاولى، وانهيارها، وبقاء الابراهيمية فاعلة في قلبها، وهي لم تعد مؤهلة تكوينيا على الاطلاق لاداء نفس الدور في الوقت الحالي، اي حسب مقتضيات ومتطلبات الدورة الحضارية الحالية الثالثة؟
فالدورة الحالية بتحدياتها المستجدة، والمفاعيل المتراكمة من الدورة الثانية، يستحيل ان يجاب عليها، الامن الكيان او التكوين الوطن كوني، ومجتمع اللادولة العراقي المزدوج، او الثنائي البنية والتكوين. ان التناقض القائم اليوم، يذكرنا بالتناقض الذي ظل شاخصا بين البنى التي انتقل اليها العبرانيون والنبي ابراهيم ومعهم الرؤية التوحيدية، وبين المحيط الشامي المصري الذي انتقلوا اليه وعاشوا ضمنه، فتلك المنطقة التي ظل العبرانيون معزولين عنها، وهم يعيشون داخلها، استمرت تكررقيم ومفاهيم الدورة الاولى، اي قيم ماقبل التوحيد الابراهيمي بذروته واعلى اشكاله، ولم يتحقق الانتصارعلى تلك المفاهيم، برغم النبوات وتتابعها هناك، الا في مجتمع اللادولة الجزيري، الذي كان برغم احاديته واولية تكوينه، وتدنيه بالقياس الى التكوين العراقي اللادولوي، قادرا وقتها على ان يحقق الانقلاب، ويغير المنطقة ويدفعها الى الدورة الحضارية الثانية.
عرفت الابراهيمية مرحلتين من الوعد، استمر الاول من هجره النبي ابراهيم من جنوب العراق حتى ظهور النبوة الخاتمة في جزيرة العرب. اي انها شملت كل فترة “الانقطاع الحضاري” الاول، في حين بدا الوعد الثاني من نهاية فعاليه النبوة والمشروع الجزيري الخاتم وتوقف فعاليته، الى اليوم. وهذا الوعد الاخير، نشا وعاش داخل العراق، ممثلا بمفهوم ” المهدي ” حيث الوعد بالظهور. اي ان الابراهيمة، او مفهوم التوحيد العراقي، عاش فترتين من المهدوية، فترة طلب الوعد خارج ارض الوعد، وختمت ب ” محمد بن عبدالله ” المهدي الاول / ص/ والثانية، تبدا بعد تحقق القراءة الخاتمة، وتوقفها عن الفعل، وتتخذ الشكل المعاش للوعد اي الوعد داخل ارضه، وهي تنتظر ” مهديها ” الحالي المنتظر.
ان من يعتقدون بان التوحيد الابراهيمي هو حركة جامدة، لاصلة لها بوقائع وحركة التاريخ العالمي العام، او بتاريخ منطقة التوحيدية ومساراته، لايدركون او هم لايعرفون ماهي مكانه او دور او حقيقة التوحيد، كما انهم لايعرفون الدور التاريخي والكوني لهذه الرؤية، او التصور المتكامل عن العالم والوجود. اضافة الى انهم يجهلون الدور التغييري التاريخي الذي تضطلع به التوحيدية باعتبارها مفهوما وفكرة وحركة تاريخية، سائرة الى الامام، ونحو المستقبل ومحققة لغايات الخلق كما وضعها الله، وجسدها في ” الغيب”، وعين قوانينها وكيفيات تجليها. اما اولئك الذين يظنون ان التاريخ، او مسير الابراهيمية محكوم عليه بالتوقف عند قراءة، او عند ختام، فهم يمثلون الان عقبة كبرى بوجه التوحيد الابراهيمي ومسيرته، وهؤلاء خاصة عندما يدعون الاعتراض على تجليات من نوع ” المهدي، كما هي حال الاستاذ احمد الكاتب، بحجه ان هذه الفكرة مبنيه على الاسطورة، وعلى الخرافة، فانما يقترحون مكانها خرافة وجمودا وسكونا شاملا، يقيد التاريخ التوحيدي، ويمنع منطقة التوحيدية التاريخية من النهوض بمهماتها ودورها التاريخي الكوني كما يتطلبه الحاضر. فالتمسك بالختام والجمود عليه، هو موت تاريخي، وتاخر دائم، وغرق في مفاعيل مرحلة انتهت، يريدون لها بالوهم والخرافة ان تستمر، وهم يبيعون الناس وهما وخرافة اسؤا بكثيرمن تلك التي يتصورون انهم يعترضون عليها، وهذه تقول بامكانية او احتمال العودة للنهوض، استنادا اليها او بناء على مفاعيلها المنتهية، والتي انجزت مهمتها تاريخيا ضمن ظروف واشتراطات بعينها.
يتيها العالم المسمى العالم العربي الذي يضم “امة التوحيدية التاريخية” الابراهيمية، للخروج من النطاق التاريخي لهيمنة الامبراطوريات الفارسية والرومانية، حيث كان العالم المنتمي الى النطاق التاريخي التوحيدي يعيش قبل الاسلام المحمدي، فترة تراجع وانقطاع، بعد الدورة الحضارية الاولى،حين ظهرت الدعوة المحمدية، واعادت الديناميات الحضارية للعمل وعرفت المنطقة دورة صعودها الحضاري الثاني، وهو يواجه حاليا، شؤونا مختلفة، وتحديات من نوع اخر، اولها فقدانه العنصر الاساسي المحرك، اي عامل التثوير والتحفيز ممثلا في القراءة الابراهيمية المطابقة للحظة التاريخية الحالية، مع شيوع وهم، او اوهام السلفية والختام واستمرارية عمل النبوة التي فقدت هذه الفعالية او القدرة منذ قرون مضت. هذا بينما هي امام تحدي النهوض الاوربي المعاصر، وامبرياليته وامبراطورياته العسكرية والفكرية والسلوكية الثقافية والاقتصادية وهيمنته على المعمورة، وسعيه الدائب الى امحاء الحضارات البشرية الاخرى، وفرض نموذجه الحضاري كممكن وحيد مفروض على الانسانية، بخلاف الطبيعة والوجود وقوانينه التي اودعت فيه، وجعلته عالما متعددا متدافعا، يسير نحو غايات كونية سامية وعليا، كذلك فان هذه المنطقة، تواجه معضلة الجمود، والتمسك بالماضي وبقوانينه والياته التي ثبتت جدواها، خلال فترة ودورة من التاريخ، فمازال الحنين يجعل من المستقبل في هذه المنطقة رهينا بالماضي، او بالاستعارة من الغرب ونموذجه، في حين تغيب كليا المفاهيم او الرؤية الابراهيمية المستقبلية. وهذا مايسبح فيه الاستاذ احمد الكاتب، متوهما انه يقدم لمسالة المستقبل، حلولا او مفاهيم ضرورية لبناء الحاضر او المستقبل، فيكرر علينا درسا من دروس العقل المشيخي التعيس.
المهدية وفكرة ” المهدي” العراقية هي الابراهيمية المتجددة في عصور الحاضر، وفيها تتجلى منطويات الثورة الكونية الحاليةالتي ينتظرها عالم وامة ” التوحيدية التاريخية ” اليوم.
الحلقة القادمه
“المهدي” مقابل فكرة ” الصراع الطبقي” الاوربية: ايهما ستحقق الثورة الكونية/ 12/