لعب النظام البعثي بسياساته وأساليبه الفاشية دوراً كبيرا في نسف أسس وقيم النظام المدني على المستوى الداخلي، وإثارته لنزاعات دموية عبر سياساته التوسعية العدوانية وحروبه المتلاحقة على المستوى الإقليمي، ومواقفه الانتهازية المخاتلة والفاسدة على المستوى الدولي. وكانت عواقب ذلك تدميرية للاقتصاد الوطني ومعيشة الشعب وما أنجز خلال ثمانية عقود من عمر الدولة العراقية، ولوحدة الدولة والنسيج الوطني للمجتمع العراقي المتعدد القوميات والديانات والمذاهب الدينية والفلسفية والاتجاهات الفكرية والسياسية. وقد عانت جميع قوى المعارضة، وبمستويات متباينة، من عنف ودموية هذا النظام وأساليبه الفاشية. وكان من شأن ذلك أن يمنح قوى المعارضة مناعة حين تكون في السلطة ضد التسلط وممارسة الإرهاب الفكري وقمع الصوت والرأي الآخر. ولكن ما حصل كان عكس المنطق السليم تماماً، إذ مارست القوى الحاكمة سلوكاً مناهضاً للعقل والعقلانية والحياة المدنية الديمقراطية.
حين جرى التهريج الأمريكي-البريطاني بدعوى الخلاص من النظام البعثي الأوتوقراطي الفاشي ومن هتلر الصغير “صدام حسين” أولاً، وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية على نمط “الحرية والديمقراطية الأمريكية!” ثانياً، صَدَّقت غالبية قوى المعارضة وغالبية الشعب هذه الفرية، لأنها كانت تعاني الأمرين من جبروت النظام وقمعه وحروبه وتجويعه للشعب، ونست أو تناست ما يمكن أن ينتظر العراق بعد حرب تدميرية متعمدة وهادفة ثم الوقوع تحت الاحتلال الأمريكي-البريطاني للوطن المستباح بهم وبغيرهم. ومن كان يعمل ضمن قوى المعارضة من المدنيين الديمقراطيين والتقدميين واليساريين أدرك بجلاء ما يمكن أن ينتظر العراق بعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة بسبب ممارسات المعارضة واتجاهات عملها وغياب الوعي الديمقراطي المؤسسي في غالبية هذه الأحزاب والقوى إن لم نقل كلها. وهي مسألة منطقية في بلد لم يعرف أبداً طعم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات.
أقامت قوى الاحتلال الأمريكي البريطاني، وبمساومة وسخة مع القيادة الإيرانية وغالبية الأحزاب السياسية العراقية، على أنقاض النظام الدكتاتوري الفاشي، نظاماً سياسياً طائفياً فاسداً خضع لها أولاً، ثم للقيادة الإيرانية ذات التوجهات التوسعية والساعية إلى ضم العراق لها باعتباره جزءاً من الإمبراطورية الفارسية الجديدة، كما كان في فترة ما من تاريخ بلاد ما بين النهرين تحت الاحتلال الساساني أو الاحتلال الصفوي، في حين كانت فارس كلها (إيران حالياً) في فترة الإمبراطورية الأموية في الشام والإمبراطورية العباسية في بغداد جزءاً منهما.
على مدى 18 عاماً مارست الجمهورية الخامسة، جمهورية أمراء الطوائف والميليشيات الفاسدة والتابعة، سياسات لم تعالج المشكلات التي ورثتها من النظام السياسي البعثي الفائت فحسب، بل زادت عليها وعمقت من مشكلات الدولة والمجتمع التي تعرضنا لها في الحلقة الأولى. إن ما جرى ويجري في العراق منذ إسقاط الجمهورية الرابعة البعثية حتى الآن يشكل نهجاً مناهضاً لطموحات وتطلعات الشعب والقوى المدنية والديمقراطية ومدمراً للاقتصاد ووحدة البلاد وإرادة ومصالح الشعب واستقلال وسيادة العراق.
فإذ كانت أهداف قوى الاحتلال الأمريكي جلية وصريحة في وضع العراق ضمن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط والمصالحة التدريجية مع إسرائيل كجزء من مشروع القرن للشرق الأوسط والخليج، وعلى طريق النيوليبرالية والهيمنة الفعلية على السياسة النفطية، ومواجهة التوسع الإيراني وسياستها في تصدير الثورة الإيرانية الشيعية وفرض مصالحها على دول المنطقة، فأن الأحزاب السياسية التي تولت الحكم لم تمتلك العقيدة والرؤية الوطنية، ولا الالتزام بهوية المواطنة الواحدة والمتساوية، ولا انتهاج سياسية اقتصادية واجتماعية وطنية مستقلة بأي حال، بل تركز اهتمام كل حزب طائفي أو قومي منها على هوية فرعية قاتلة للوحدة الوطنية، على تحقيق ما يلي:
1. تعزيز نفوذ الحزب الذي يمثله، سواء أكان حزباً طائفياً أم قومياً؛
2. الادعاء بتمثيل دين أو طائفة دينية أو قومية أو عشيرة؛
3. السيطرة على قيادة الدولة بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها وهيئاتها المستقلة عبر الادعاء بالعلم على قاعدة “التوفق – الصراع!” في توزيع الحصص في السلطات الثلاث على أسس دينية وطائفية وقومية ومناطقية؛
4. الهيمنة الكاملة وبمختلف السبل غير المشروعة على المال العام والتصرف به لصالح كل منها وزيادة الريع السنوي المتحقق من استخراج وتصدير النفط الخام بما يسمح لها بمزيد من نهب المال والنفط الخام وتهريبهما. ونشأ عن ذلك كثرة من القطط السمان وأصحاب النعمة الحديثة المنهوبة من مال الشعب؛
5. التوسع غير المعقول وغير المقبول في منح عقود استخراج النفط الخام (تأجير أو مشاركة) طويلة الأمد بجولات عديدة، سواء أكان ذلك على مستوى الحكومة الاتحادية أم حكومة إقليم كردستان، في غير صالح الاقتصاد الوطني والمجتمع. وقد اقترنت هذه العقود بجوانب سياسية من جهة، وبفساد كبير من جهة أخرى، كشف عنه على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
6. اعتماد أساليب ملتوية كثيرة للهيمنة على المال العام، بما في ذلك النهب الصارخ المباشر، وعبر مزاد البنك المركزي لبيع العملة الصعبة، وغسيل الأموال، وعبر العقود التجارية والمقاولات والعقارات، وتهريب النفط الخام والآثار العراقية القديمة، وكذلك عبر شراء الأسلحة والطاقة الكهربائية والمنتجات النفطية والغاز من الخارج؛
7. الابتعاد الكلي عن عملية التنمية الاقتصادية، لاسيما الإنتاجية في الصناعة والزراعة وفي القطاعين العام والخاص والقطاع المختلط، مما سهل وأوجب عملية الاستيراد السلعي من إيران وتركيا بشكل خاص. وكان لأتباع إيران دور رئيسي في التخريب الاقتصادي وإعاقة التنمية الصناعية والزراعية والطاقة الكهربائية. ومن يتابع قانون الموازنة العامة لسنة 2021 سيجد مصداقية الاتهام بأن وزير المالية العراقي الجديد، ومعه بقية المسؤولين عن وضع فقرات الميزانية المختلفة، قد اتبعوا وبالتزام شديد الوصفة الدولية النيوليبرالية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تقدمها للدول النامية، ومنها العراق، بشأن السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، والسيات الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية الدولية. ويجري هنا التركيز على مسائل منها:
** ابتعاد الدولة كلية عن النشاط الاقتصادي، لاسيما الإنتاجي والتجارة الخارجية وخصخصة المشاريع الاقتصادية الحكومية القائمة، بما في ذلك وفي مستقبل غير بعيد قطاع النفط الاستخراجي؛
** منح القطاع الخاص المحلي والأجنبي الدور الأساسي والرئيسي في العملية الاقتصادية الإنتاجية والخدمات الإنتاجية ومشاريع البناء والتجارة الخارجية …الخ؛
** التوقف عن دعم الأسعار للسلع الأساسية وإيقاف البطاقة التموينية والتخلي عن أي فكرة بشأن التأمين الصحي الحكومي أو الضمان الاجتماعي؛
** تعويم العملة المحلية أو تخفيضها إزاء الدولار الأمريكي، كما حصل أخيراً، مما أدى إلى عواقب اقتصادية ومعيشية درامية لفئات وسعة جداً من العائلات الفقيرة والكادحة ومن ذوي الدخل المحدود وصغار الموظفين بسبب انخفاض قيمة وقدرة الدينار العراقي أولاً، وارتفاع أسعار السلع والخدمات المستمر ثانياً؛
8. الاتجاه صوب إغراق الأسواق المحلية بالسلع المستوردة من كل من إيران وتركيا بشكل مقصود من جانب قيادة السلطة التنفيذية، ومن ثم من الصين وتوجيه مبالغ طائلة لهذا الغرض مصحوبة بفساد كبير ومتنوع؛
9. الهيمنة الطائفية الشيعية لأحزاب “البيت الشيعي” على السلطة التنفيذية والتشريعية والأكثرية البرلمانية ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية والادعاء العام من جهة، وعلى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والمخابرات والاستخبارات والميليشيات الطائفية المسلحة (والحشد الشعبي) من جهة أخرى، التي سهلت لأحزاب البيت الشيعي إصدار قوانين غير ديمقراطية، وممارسة سياسة تربوية وتعليمية ذات نهج طائفي شيعي مقيت مناهض للديانات والمذاهب الأخرى وأتباعها والممزق للنسيج الوطني للمجتمع العراقي. كما ساهمت مع مرور الوقت على تدجين القيادات السنية بأسلوب “الجزرة والعصا” المعهود، لاسيما قادة بعض الأحزاب السنية والمشارِكة في قيادة السلطات الثلاث للدولة وعبر المساومة الرخيصة مع إيران أيضاً؛
10. الهيمنة المباشرة على وزارتي التربية والتعليم ووضع المناهج بروح وأسس طائفية مقيتة تنشر الكراهية والأحقاد في صفوف التلاميذ والطلبة والمجتمع؛
11. الهيمنة التامة على أجهزة الإعلام الحكومية وكثير من إعلام القطاع الخاص طائفياً من جانب قيادة السلطة الشيعية. والهيمنة هنا لا تنتهي بالسيطرة على المواقع الأساسية وغالبية العاملين والتمتع بامتيازات خاصة فيها فحسب، بل وكذلك الهيمنة الفكرية والتوجيه السياسي والتربوي والتثقيفي العام؛ وهنا لا بد من الإشارة إلى:
** كثرة قنوات لتلفزة الدينية ذات النهج الطائفي الشيعي المتزمت التي تبث سمومها يومياً؛ ** كثرة الاحتفاء بأعياد الميلاد أو بذكرى وفيات الأنبياء والأولياء الصالحين المتزايد عددهم سنة بعد أخرى بما يسهم في إشغال فكر الناس بذلك ونسيان أوضاعهم في جو من الفرح الحزين والحزن العميق الذي يصيب الناس في المناطق الشيعية وعموم البلاد، كما يصيب الناس بالقنوط والاقتصاد الوطني بخسارة فادحة؛ ** كثرة العزاءات الحسينية والمسيرات على الأقدام واللطم وشج الرؤوس بالسيوف والقامات وجلد الظهر بالسلاسل السكينية وكثرة من بدع وأفعال متطرفة كالتمرغ بالطين “حزناً!” على استشهاد أبو عبد الله الحسين (628-680م) وصحبه في كربلاء بدلاً من تكريمه بصيغ إنسانية محترمة؛ ** تنظيم القراءات من على المنابر الحسينية التي تثير الأحقاد والكراهية ضد أتباع المذهب السني وكأنهم “قتلة!” الحسين زيفاً وإساءة، وكذلك ضد أتباع الديانات الأخرى. وقد عمل على إثارة روح الفتنة والكراهية بصراحة صارخة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي حين قال، بما لا يقبل تفسيراً خاطئاً في عمق طائفيتيه وتعصبه المفرط وسوء نواباه، في مدينة كربلاء: “أنصار الحسين وأنصار يزيد يصطدمون بمواجهة شرسة عنيدة… الجريمة بحق الحسين لم تنته لا زالت فصولها نعيشها اليوم…” (أنظر: وسيم نصر، عادت الميليشيات تصول وتجول في العراق بسياق مكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية”، فرانس 24، 13/11/2014)؛
12. إن وجود نظام سياسي طائفي تحت قيادة طائفية متشددة مُحملة ومهووسة بالكراهية ولأحقاد إزاء أتباع الديانات والمذاهب والإيديولوجيات الأخرى في بلد يعتمد اقتصاده على الريع النفطي بشكل رئيسي، قاد وسهل ممارسة سياسات بعواقب مريعة، منها:
** بروز مقاومة سياسية وعسكرية من المناهضين لها؛ ** تشكيل ميليشيات طائفية مسلحة وإرهابية للقوى المتصارعة؛ ** تفاقم الفساد المالي والإداري في الدولة والمجتمع واستخدام ذلك لتشديد السيطرة والاغتناء الشخصي على حساب المجتمع ومصالحه؛ ** وفي هذا الصراع الطائفي المحتدم استنجد كل طرف طائفي محلي بالقوى الإقليمية المجاورة التي ساهمت في تعميق الصراعات والنزاعات الدموية المفرطة والقتل على الهوية واجتياح وغزو العراق؛
إن شعب العراق ومنذ 18 عاماً يعيش تحت وطأة دولة هامشية مهمشة وسلطات ثلاث فظة تدار من قبل أحزاب إسلامية سياسية على رأسها قيادة شيعية مفرطة بالطائفية والتعصب المذهبي لتغطية مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية بالأساس، وتمارس بشتى الطرق سياسات لم تعالج تلك المشكلات القديمة والكبيرة التي كان يعاني منها المجتمع ويريد معالجتها، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الأمنية أو العسكرية أو البيئية منها، فحسب، بل أضافت إليها، وكلنا شهود على ذلك، مشكلات جديدة في جميع تلك المجالات وزادتها بالتبعية لقيادة الحكم في إيران وثلمها الكبير للاستقلال والسيادة الوطنية.
إن القوى الحاكمة لم ترتدع بالانتفاضة الثورية السلمية المديدة التي نهضت بها شبيبة العراق من الذكور والإناث وقدمت نجوماً ساطعة شهداء وجرحى ومعوقين على مذبح الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، وهي غير مستعدة لأي إصلاح يستهدف، ولو جزئياً، وجودها في السلطة ومصالحها الاقتصادية والمالية ونفوذها في المجتمع وتبعيتها الشديدة لإيران ومرشدها المستبد بأمره و”ولي العصر!” علي خامنئي. فما العمل الذي ينبغي ان تنهض به المعارضة المدنية والديمقراطية وقوى الانتفاضة التشرينية في تعبئة الشعب وقيادته لتغيير الواقع المرير القائم؟ هذا ما يفترض الإجابة عنه في الحلقة الثالثة والأخيرة.
الحلقة الثالثة: سبل وآليات المعالجة الجذرية لهذه المشكلات والتحديات
رؤية سياسية للمناقشة الحلقة الثانية: توصيف وتحليل موقف الدولة بسلطاتها الثلاث من مشكلات المجتمع العراقي
اترك تعليقا