بغداد او حطب الذاكرة
………………………………
سعد عودة
للمدن ذاكرة من حطب تحتاج من يشعلها لكي تنسى كل شئ وتتحول الى واقع اكثر اقناعا وربما اكثر حيوية ,هكذا تبدو الامور في مدن العالم لكن في العراق فللمدن ذاكرة من ليف صوفي من النوع الذي لايشتعل ويصلح كبطانات لأفران تصل درجة حرارتها الى مايقارب درجة حرارة الجحيم ,المناطق تتحول شكليا وتبقى تحافظ على خرابها او تلونه بألوان زاهية احيانا ومعتمة احيانا اخرى ,والناس تخدع نفسها وتتصور ان هذا الشكل الجديد للخراب سيمحو ذاكرة المدينة ويصنع واقعا اخرا ويحاول بكل ما يستطيع ان يدعمهُ قبل ان يصطدم بحقيقته ..
وفي مدينة مثل بغداد تتكرر هذه الصدمات وتتجلى دائما الى نوع من اليأس وفقدان الامل قبل ان يخرج من ابنائها الذين يعيدون طلاء جدرانها الخربة فنتفاءل ونقول مع انفسنا (لابد لليل ان ينجلي) ونكتشف ان شمسنا ما زالت مكبلة بقيود عقولنا التي يشحنها الخراب والضياع في كل مرة فيتولد صراعا وهميا نتصور معه اننا اصحاب مبادئ راسخة واصحاب يقين لايتزحزح وبسهولة كبيرة يتحول هذا اليقين الى شك عظيم وتتحول المبادئ الى مصالح وتبدأ دورة الخراب..
المظاهرات بلونها الابيض حولت شخصيات الخيال بلمح البصر الى شخصيات واقعية تتحرك في الساحة وتدور وتصرخ لكن ما أن تمد يدك نحو جسدها الجميل ستكتشف انها مازالت شخصيات خيالية تعرض علينا بعارضات سينمائية ضخمة اوجدها هذا الانصهار الكبير الذي اعاد تشكيل المشهد, ببساطة شديدة ستدخل اصابعنا الى اجسادهم الشفافة وربما اجسادنا فنحن لم نعد متأكدين من وجودنا إلا من خلال الصورة التي ستظهر لاحقا على صفحات الفيس بوك .
مدنيون ,علمانيون,اسلاميون,متسلقون,سياسيون,يساريون,ليبراليون,قوميون
كلهم مجرد ظلال كونتها ردود افعال ومصالح آنية لاتلبث ان تتحول وتتشكل من جديد وبمجرد ان تتغير آليات الواقع,مجرد مسميات لاجذور لها ومحطات لانلبث ان نودعها قبل ان يعلن القطار عن انطلاقه الى محطة قادمة , مانعيشه الان هو محاولة لاستعادة جلودنا التي فقدناها منذ زمن طويل ,في ملجأ ما او في سجن ما او في غربة ما وهذه الاستعادة لاتحتاج الكثير من التأويلات والتوصيفات والحوارات ,كل الذي تحتاجه مزيدا من الصراخ والقفز ,مزيدا من الخروج ,مزيدا من التظاهر حتى يمكننا ان نتأكد ان خرجنا من هذا الخراب لا طليناه بلون جديد حتى اذا كان هذا اللون يضم في داخله كل الالوان الاخرى.